محمد جميل أحمد
مفارقة مشهد الناظر تِرِك مع إيلا، في حشد سنكات الذي تم تنظيمه احتفالاً بعودة الأخير، قبل أسبوعين، تعكس المشاهدة البصرية فيها؛ بين صورتي إيلا وترك، أكثر من دلالة تُحيل إلى طبيعة المأزق الذي وصل إليه شرق السودان، بعد ٣٠ سنة من تسييس الإدارة الأهلية وتوريط نُظَّارها في السياسة كبديل للأحزاب؛ تلك الخلطة المسمومة التي فخَّخ بها نظام البشير النسيج الاجتماعي لشرق السودان. وبعد ثلاث سنوات من وقائع الفتنة التي كان مجلس تِرِك رأس الحربة فيها، عبر تأجيج خطاب كراهية ضدَّ مكون بجاوي آخر في شرق السودان: (بنو عامر والحباب)، تحت غطاء رفض مسار الشرق لأسباب عنصرية؛ أدَّتْ مفاعيل ذلك الخطاب الناشط في الكراهية والذي كانت تُفتح له بعض الأندية الاجتماعية العامة في مدينة بورتسودان-نادي البجا- تحت سمع وبصر والٍ ضعيف ومتواطئ (عبد الله شنقراي)؛ إلى ما كانت عواقبه وخيمة في ملحمة عبثية راح ضحيتها أبرياء، من الطرفين.
وفيما تبين اليوم بوضوح، بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر الماضي، أن تأسيس وتحريك مجلس تِرِك في الفتنة، كان بإيعازٍ وتوجيهٍ من جهاز الأمن (كما صرَّح بذلك لواء شرطة من مكون “البداويت” في مقطع صوتي عبر الواتساب)؛ سنجد أن الخسائر المادية التي تكشفت عنها نتائج إغلاق ميناء بورتسودان والطريق القومي (وهذا الإغلاق أيضاً كان بإيعاز من المكون العسكري في مجلس السيادة السابق كما عرف الجميع)؛ أعطبت صلاحية ميناء بورتسودان وضربته في مقتل، وذلك كله دون أن يجني البجا أي نتيجة كبيرة من استحقاقاتهم – العادلة بطبيعة الحال –.
لقد كان العمل المُتخبِّط في المجلس الأعلى لنظارات البجا – غير توظيفه الأمني – ينطوي على مجازفات مُميتة، لأن المنظور القبائلي في مجال العمل السياسي، كان أكبر هدية مسمومة جلبها نظام الإنقاذ لمجتمع البجا في شرق السودان؛ ففضلاً عن التناقضات الداخلية الخطيرة في إدارة عمل سياسي بمنظور قبائلي، كان من الواضح جداً أن مسألة انفجار التناقضات في المجلس ذاته مسألة وقت. وهكذا لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى انفجرت التناقضات على نحو عدمي. وكان ذلك الفشل الذريع إيذاناً بفشل آخر لخُطَّة اللجنة الأمنية، والأجندة الإخوانية للثورة المضادة في شرق السودان.
نتصور أن مجيء إيلا جزءٌ من أجندة محلية أو أجندة خارجية، أو الاثنين معاً، ولا علاقة له بأي تسوية تستوعب إيلا في أيِّ حكومة مُحتمَلة. وكم كان الدرس درساً مُفارِقاً ومجانياً في أبجديات السياسة، حين رأينا منظر إيلا في سنكات وتِرِك يقف إلى جواره فرحاً ومبهوراً به؛ فيما كان إيلا يُرحِّب في كلمته بكُلِّ مُكوِّنات شرق السودان (طبعا بما فيهم مكون البجا الآخرين: الحباب والبني عامر)، لأن ذلك الترحيب العمومي هو وسيلة السياسة في استقطاب الأتباع. ورأينا ما هو نقيض له قبل سنتين في المكان ذاته: (سنكات) وتِرِك يقف إلى جوار حميدتي، فيما كان هذا الأخير يسأل وهو مطمئن إلى الإجابة الصحيحة، مُعدِّداً قبائل البجا، عندما قال للآلاف من البداويت: (الحباب ما بجا؟) – أي أليس قبيلة الحباب من البجا؟ – مطمئناً إلى إجابة تلقائية ظنها من بديهيات مجتمع البجا، فإذا به يُفاجأ بأصوات عالية حصبته بالإجابة الصادمة من آلاف المتجمعين أمامه: “الحباب ما بجا… الحباب ما بجا” (مع أن أطرف كتاب لأي مؤرخ عن تاريخ البجا بشرق السودان قديماً وحديثاً يفيد قارئه بمعلومة: أن الحباب من قبائل البجا).
كان يمكن للناظر تِرِك أن يُعلِّق ويصحح المعلومة، لكنه (وقد وطّن نفسه على إشاعة خطاب كراهية شعبوي مُضلِّل لثلاث سنوات للمُكون الثاني من هوية البجا) أنى له أن يقر بحقيقة كهذه؟!
هكذا، فيما يأتي إيلا اليوم ليُراكم فشل البجا في مستقبل سياسي محروق للرجل، نعتقد أن تصريح تِرِك للصحف قبل أسبوع والذي يخير فيه السودانيين بين: تعيين إيلا رئيساً للوزراء، أو فصل شرق السودان، وكأنه أمير لحاكورة من العصور الوسطى، لم يحمل أيَّ حسٍّ بالتغيير التاريخي الذي شارك فيه ملايين السودانيين خلال ثورة ١٩ ديسمبر، واستشهد منهم شهداء طاهرون في سبيل إسقاط حكومة إيلا، مرة وإلى الأبد!
الإشكاليات التاريخية لعزلة البجا، هي في تقديرنا مأزقُ الدولة السودانية الخطير، في صيرورة ومستقبل بنائها. وهو أمر لم يجد إلى اليوم من طرف النخب السودانية في السلطة والفكر السياسي الاستراتيجي أيَّ اكتراث يوازي تلك الخطورة!
ونعتقد أن كتاباً لإداريٍّ إنجليزي عاش في شرق السودان ٣٠ سنة “مستر أندروبول” بعنوان “تاريخ قبائل البجا بشرق السودان” (نشرته جامعة لندن في الخمسينيات وترجمه أحد أبناء البجا؛ د. أوشيك آدم علي) سيُلقي إضاءات مهمة لصانع القرار السوداني (الغَفْلان)، وواضعي الرؤى الاستراتيجية لبناء الدولة السودانية – إن وجدوا