الخرطوم: أحمد ود اشتياق
خرج السودانيون، شباباً وشاباتٍ، للشوارع، مُتظاهرين بصدور مفتوحة أمام الرصاص، وبسالةٍ مُنقطعة النظير، في مواجهة عسف النظام البائد، وانقلاب 25 أكتوبر المشؤوم، يتظاهرون حاملين أكفانهم معهم، من أجل العيش الكريم والحرية والسلام والعدالة، وبناء سودان يسعهم جميعاً تحت لواء دولة مدنية ديمقراطية.
تظاهر السودانيّون، حالمين بوطن التعدُّد والتسامح والأمنيات المُتنوِّعة، التي يسعون لتحقيقها على شاكلة مجانية التعليم، وتوفير فرص العمل، وترسيخ قيم الديمقراطية، وتحسين الأوضاع المعيشية، وغيرها من الحقوق المشروعة.
شبابٌ كثرٌ تخلّوا عن حظّهم في التعليم، لصالح توفير لقمة العيش الكريم لأسرهم، وآخرون يعملون في أكثر من وظيفة لتوفير ثمن الخبز والدوء، وأطفال قُصّر وآخرون في ريعان الشباب، كانت أُسرهم ترسم في أحلامهم الغد المشرق، وتنتظر شهادات تفوقهم، لا خبر رحيلهم الفاجع، مضوا شهداء لأجل سودان الحرية والعدالة والسلام.
رصاص الطغاة “يحرق حشا الأمات”
في سبيل سعي هؤلاء الشباب نحو الغد الأفضل، واجهوا عنف الدولة التي تقف أمام أحلامهم وحقّهم العادل في الحياة، ببسالة وصمود، أمام بطش السلطة التي أكدت مراراً أنها لا تسلبهم الأحلام فقط، بل حق (الحياة) نفسها، فكم من امرأة ترمّلت، وكم من أسرة فقدت المُعيل والسند والابن والابنة. وإضافة لحزن الفقد كقيمة لا يمكن تعويضها، فقدت كثيرٌ من هذه الأسر مصدر دخلها وعماد صرفها ومسؤول إعالتها، وفقدت البسمة في وجه زمان كالح، ليحرق رصاص الطغاة “حشا الأمات”.
شيماء وصدمة سيزار
تقول لطيفة جعفر، والدة الشهيد محمد أحمد (سيزار)، إن الشهيد كان محبوباً وسط الأهل والأصدقاء في الحي؛ مُثقّفاً ومطلعاً لا ينتمي لحزب أو جهة، هو فقط شاب وطني جدّاً، يعشق تراب هذه الأرض، ويحلم بسودان أجمل، ويتفاعل مع كل القضايا الوطنية، مُتصدّراً للعمل الجماعي، لا يتوقف لحظة عن هدفه في بناء الوطن الذي كان يحلم به.
الشهيد مواليد العام 92، هو أكبر الأبناء في المنزل، يصغره اثنان، مصطفى وشيماء، وكانت تربطه علاقة خاصه بأخته الصغرى شيماء، والتي تعاني من صدمة فقده ولم تصدق أن محمد استشهد، حتى أنها لم تتقبل إلى الآن رحيله الفاجع.
البلد بخيرها.. الفاسدون ينهبونها
“(سيزار) هميمٌ جدّاً”، تقول والدته المكلومة لـ”انتقال” ثم تضيف: “ولا يقبل الجلوس دون عمل، دائم البحث عن فرص عمل للصرف على المنزل، ومُساعدة إخوته والمحتاجين من الأقارب والجيران والأصدقاء”.
في فترته الأولى عمل في مركز طبي سائق دراجة نارية (موتر)، يقوم بتوصيل المعدات والطلبيات الطبية في فترة اعتصام القيادة العامة.
كما أكدت لطيفة، أن الشهيد كان مداوماً على الحضور في ميدان الاعتصام بشكل ثابت، يذهب للعمل، وبعد ذلك مباشرة يتوجه لميدان الاعتصام، وكان دائماً يردد: (السودان بخيره ونحن فقراء وبلادنا ينهب مواردها فاسدون). وتضيف أيضاً: “عندما يتحدث عن أوضاع البلد يتحسّر جداً وتزوره العَبرة حتى تحس بأن صوته يعاني من اختناق حاد”.
الصوت ينادي.. ما سرك مع ربك
الأسرة المكلومة، كانت تعلم أن ابنها محبوب، لكنها أحست بحجم الحب الكبير، عند تشييعه. تذكر الحاجة لطيفة لـ”انتقال”: “في تشييع ابني الشهيد محمد، كنت أسمع صوتاً بعيداً يُنادي يا محمد ما سرك مع ربك، وظل هذا الصوت يتردد عندي بشكل دائم كلما أجلس للصفوة والدعاء لروح الشهيد”؛ وأضافت: “الشهيد محبوب جدّاً، وفي تشييعه أدركت أنه (سيزار) لم يكن غالياً عند أسرته فقط، بل شاهدت محبة كبيرة لهُ في الحي من الشباب والثوار، كما اتضحت لي كثيرٌ من الجوانب التي لم أكن أعلمها عنه، فقد كان يقتسم معنا مصروف المنزل، وكنا نعتقد أنها نزوة الشباب.. لاحقاً علمنا أنه يُعيل أسراً ضعيفة بما يقتسمه معنا من المال، هذه الأشياء كانت أهم الأسباب التي ساعدتني جدّاً على الصبر، حين أدركت أن (سيزار) كان رجلَ خير، وكان يُساهم في مساعدة كثير من الأسر المحتاجة، كان سبّاقاً لعمل الخير.. كل تلك الأمور عرفتها بعد استشهاده”.
ركيزة المنزل
“الشهيد محمد كان عاملاً في المطار، ثم قدَّمَ الشهادة الجامعية، لتتم ترقيته لضابط حركة. وأخبرني في أول يوم أنه اختار العمل من أجل أن يتمكن من دفع فواتير علاجي، كان يعتقد أن واجبه هو حمل المسؤولية بعد وفاة والده عليه الرحمة، فهو يتفقّد المنزل بشكل دائم ويكمل النقص دوماً دون طلب؛ محمد بالمختصر كان الركيزة و(عمود البيت)”، تضيف والدة الشهيد.
العناق الأخير.. ووخزة القلب
في وقت إصابته كان متقدماً لإنقاذ إحدى الثائرات، وقبلها تحدثت معه والدته، بعد أن راودها إحساس غريب، وبقلب الأم الذي يستشعر الخطر قبل ميقاته، منعته من الخروج. قالت: “تحدثتُ معه: (يا محمد الليلة ما تطلع الموكب).. لكنه أصر وقال: (الموت بجيني في السرير).. ودَّعته بالرضا وقلت لهُ عافية منك وراضيه عنك”. وتؤكد والدته أنها علمت لاحقاً أن سيزار صادف أخته شيماء في الموكب واحتضنها بشدة ثم ودعها مبتسماً وذهب لمقدمة الموكب. وتضيف الحاجة لطيفة: “وجدت خبر سقوط أربعة شهداء عبر بيان لجنة الأطباء السودان المركزية.. والشهيد الخامس من الخرطوم، لحظتها شعرت بوخزة في القلب، وقلت لا إله إلا الله وانا لله وإنا إليه راجعون، ربنا يكضب الشينة”.
لم تمر سوى نصف ساعة – تقول الحاجة لطيفة – حتى سمعت طرقاً شديداً على باب الشارع، خرجت وسألت: (المات منو؟ وتأكدت مخاوفي.. سيزار استشهد). حينها أجهشت الوالدة المكلومة بالبكاء، بحرقة وألم لم تحسه من قبل.
النظرة الأخيرة.. ومعاناة المشارح
عن اللقاء الأخير، والنظرة التي لن تجد لها تكراراً ثانياً، تقول والدة الشهيد: “حينما نظرتُ لوجه محمد النظرة الأخيرة، وجدتّه (نوراً)، سبحان الله، ومبتسم، وهو ما زادني صلابة وثباتاً، حينها تذكرت حديثه معي دائماً عن السودان وفداء الوطن.. واستغربتُ جدّاً من عدد المُشيّعين والأعداد التي أتت لدفن محمد، لكنه يستحق”. وتضيف الحاجة لطيفة لـ”انتقال”: “عانينا في رحلة البحث عن مشرحة، ذهبنا لمشرحة مستشفى بشائر وجدناها مغلقة، ومن ثم قررنا الذهاب لمستشفى أمدرمان، وكان الثوار خائفين من دفن الشهيد في أمدرمان دون المشاركة في التشييع، ووعدتهم بالعودة لدفنه هنا، وبسبب إغلاق الكباري ذهبنا لأمدرمان عن طريق جسر جبل أولياء، وهناك وجدنا الجثامين الأربعة الأخرى، في رحلة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات ذهاباً وإيابا”، واستطردت: “تم التشريح، الإصابة كانت فوق الأذن بعيار ناري خرج بالجهة الأخرى، وبعد التشريح عدنا إلى المنزل، حتى تلقي أخته النظرة الأخيرة وتودع شقيقها المحبوب”.
لجان المقاومة وود الفكي.. زيارات وتفقّد
دور كبير في مسار الثورة تقوم به لجان المقاومة، في مساعي إسقاط الانقلاب، إلا أن لها أدواراً أُخرى عظيمة هي الأخرى، إذ لم تتوقف – بشهادة والدة الشهيد سيزار الحاجة لطيفة – عن زيارة منزل الشهيد وتفقد أوضاع المنزل.
وتقول الحاجة لطيفة: “زارنا أيضاً عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان للمؤاساة، كابن للمنطقة وممثل للحرية والتغيير، وأنا شاكرة له لهذه الزيارة وتفقده لأحوالنا.. ولم تنقطع عنا زيارات الأصدقاء ولجان المقاومة، وإخوان وأخوات سيزار المرابطين في الشوارع من أجل المدنية والقصاص لإخوتهم الشهداء”.
خروج للمواكب لتحقيق حلم الشهيد
لم تتوقف والدة الشهيد سيزار عن الحراك الجماهيري في الشوارع، بغية المساهمة مع الثائرات والثوار في تحقيق أحلام الشهداء في دولة الحرية والعدالة والسلام، وقالت لـ”انتقال”: “أخرج للمواكب دائماً.. أنا دائماً في الصفوف الأولى لإسقاط الانقلاب وتأسيس الدولة المدنية التي كان يحلم بيها سيزار، فلا أمن في هذا الوضع ولا حرية.. أصبحنا غير آمنين لا في الشارع ولا حتى في منازلنا.. يجب أن تأتي حكومة مدنية كاملة كما ينادي الثوار في الشارع ومحاسبة كل المجرمين قتلة الشهداء وسارقي موارد البلاد”.