الخرطوم: انتقال
في يونيو الماضي، تزايدت احتجاجات الأهالي في ولاية البحر الأحمر على مشروع إنشاء ميناء جديد بمنطقة مقرسم الشهيرةِ بالشعب المرجانية الخلابة، تُموّله الإمارات العربية المتحدة. تزامن ذلك مع إعلان وزير المالية في سلطة انقلاب 25 أكتوبر، جبريل إبراهيم، عن توقيع مذكرة تفاهم بين الخرطوم وأبوظبي لإنشاء مشروعٍ زراعي ضخم، يتم ربطه بطريقٍ بري يصل إلى الميناء المقترح بناؤه، ولم يتم الكشف عن التفاصيل. سبق ذلك رفض المجتمعات المحلية إنشاء قوات الدعم السريع قاعدةً عسكرية تم التصديق بها من والي ولاية البحر الأحمر المُعيّن من سلطة الانقلاب “علي أدروب”.
تسلسل الأحداث بدأ منذ مارس 2022، عندما منح قائد عام الجيش عبد الفتاح البرهان، وزيرَ الدفاع سلطة تنفيذ قانون المناطق البحرية والجرف القاري، والذي كان يقع تحت سلطات المفوضية القومية للحدود التي تتبع لمجلس السيادة.
مساعي الإمارات
ظلت الإمارات طوال السنوات الفائتة، تعمل على التوسع إقليمياً للسيطرة على موانئ البحر الأحمر، بغرض تقوية ميناء جبل علي، وتصفية منافسيه، والحصول على امتيازاتٍ مالية ولوجستية، وزيادة رأس المال بصورة أكبر لمجموعة موانئ أبوظبي ومجموعة موانئ دبي. وتدخل الإمارات دائماً عبر بوابة التطوير والتحديث وتقديم الخدمات والاستشارات، لكن الحقيقة هي السيطرة الفعلية على الموانئ لصالح تطوير موانئ الإمارات. وتعمل المجموعة عبر 75 محطة حول العالم.
في 2018م، وقعت الإمارات اتفاقاً مع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مشروع العين السخنة، في مساحة تبلغ 30 كلم خصصته كميناء؛ كما وقّعت مجموعة موانئ أبوظبي في مارس 2022م اتفاقاً مع القاهرة لتطوير الموانئ المصرية، بعد إغلاق ميناءي بورتسودان وسواكن وطريق شرق السودان من قِبَل المجلس الأعلى لنظارات البجا، وتحولت الواردات والصادرات السودانية عبر ميناء العين السخنة.
الشركة الفلبينية “ICTSI”
أثناء الحراك الجماهيري لإسقاط نظام البشير في يناير 2019م، ألغى الرئيس المخلوع البشير الاتفاق مع شركة الخدمات الدولية لمحطات الحاويات لإدارة وتشغيل الميناء الجنوبي للحاويات، وهي شركة مملوكة لرجل الأعمال الفلبيني “انريكي رازوان”، حيث كان الاتفاق أن تدير الميناء لمدةِ 20 سنةً مقابل 530 مليون يورو، يُسلّم منها نظام البشير 410 مليون يورو وقتها، ومقر الشركة كان في دبي واعتبرت تبعاً لذلك إحدى واجهات شركة موانئ دبي.
شركة موانئ دبي
المهندس وليد الريح بابكر، “عضو تجمع المهندسين السودانيين”، أوضح لـ “انتقال”، أن شركة موانئ دبي تريد السيطرة على الموانئ في المنطقة، والسبب أن أساس النشاط الذي تقوم به شركة موانئ دبي في ميناء جبل علي هو نشاط المسافنة، والذي تعتمد عليه السفن التي ترغب في عبور قناة السويس. (Trans-Shipment).
ومعلوم أن موانئ البحر الأحمر مثل الحديدة وجيبوتي ومصوع وبورتسودان، أكثر تأهيلاً من ميناء “جبل علي”، للقيام بمهمة المسافنة، لأن ميناء بورتسودان مساحته واسعة، وقابل للتمدد مقارنةً بالموانئ الأخرى. وحاولت شركة موانئ دبي الاستحواذ على هذه الموانئ لمنع أي محاولة لنهوضها و منافسة “جبل علي” في نشاطه، واشتهرت قضيتها مع ميناء جيبوتي بعد أن استحوذت عليه، ولكنها لم تستثمر فيه بل على العكس أوقفت عمله.
قطر.. تركيا
عن العروض القطريةِ للاستحواذ على ميناء بورتسودان، أوضح المهندس وليد الريح أن أقوى المحاولات كانت من قطر في عهد المخلوع البشير وبداية الفترة الانتقالية، لكن كان غرضها إنشاء ميناء جديد يتخصص في المسافنة في سواكن بهدف سحب البساط من ميناء “جبل علي” اقتصادياً، نكاية في الإمارات خلال فترة سوء العلاقات بين الدولتين.
وأعلنت حكومة البشير خواتيم 2017م، عزمها توقيع اتفاقياتٍ مع قطر لإنشاء ميناء على ساحل البحر الأحمر المُمتدّ على مسافةِ 700 كلم، ومنحها إدارة و تطوير “ميناء بورتسودان”. في 25 ديسمبر 2017م، وقع السودان وتركيا على 21 اتفاقية تعاونٍ، شملت تطوير ميناء سواكن باستثماراتٍ تبلغ 4 ملياراتِ دولار، وأُعلن عن خطط تطوير ميناء سواكن في مارس 2018م، وهو ما عُدّ توجهاً لتركيا نحو البحر الأحمر، في إطار سباق الوجود في المنطقة؛ ولكن قطع تنفيذَ هذا المشروع سقوطُ نظام البشير، وإعلان المجلس العسكري الانتقالي وقتها إعادة النظر في الاتفاقيات التي وقعها.
نظام المؤتمر الوطني المحلول
مساعي دولة قطر للعودةِ إلى إعادة فتح ملف الموانئ السودانية لم تتوقف، وتكررت خلال الفترة الانتقالية؛ وفي فترة وزير النقل المكلف وقتها هاشم بن عوف؛ ولكن لم تصل جهودها إلى نتائج ملموسة بعد توجه الحكومة حينها إلى التعاقد مع شركة موانئ هامبورغ الألمانية لتطوير ميناء بورتسودان خاصةً الميناء الجنوبي.
العودة خلال الفترة الانتقالية
بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، سعت الإمارات لإيجاد حلفاء جدد، ومع تقليب الأوراق ظهر رجل الأعمال أسامة داؤود، المالك لمجموعة دال، والتي تستثمر جزءاً كبيراً من رؤوس أموالها في الإمارات، إضافة لارتباطه بمشاريع سابقة مثل شراء بنك أبوظبي عبر تمويلٍ من مسؤولي نظام البشير، وعلى رأسهم مدير بنك السودان وقتها صابر محمد الحسن. قاد داؤود تحركاً مع مسؤولي الحكومة الانتقالية وعلى رأسهم رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك، ووزير الدولة في وزارة النقل هاشم بن عوف، لمنح الإمارات منفذاً لدخول ميناءي بورتسودان وسواكن، لكن فشلت المساعي، وضغطت الإمارات طيلة الفترة الانتقالية على الحكومة لفتح مجال للاستثمار لها في منطقة الفشقة، وهو ما رفضه وزراء قوى الحرية والتغيير في 2021م، بعد تشكيل الحكومة الثانية.
خرق السيادة الوطنية
الصحفي والمتخصص في الشؤون الاقتصادية هاشم عثمان أكد لـ “انتقال” أن دخول الإمارات للاستثمار في الموانئ السودانية بدأ منذ 2013م وحتى 2017م، عبر الشركة الفلبينية، وتكررت المحاولات حالياً في عهد وزير المالية جبريل إبراهيم، بعد تصريحاتهِ حول الشراكة لإنشاء ميناء في منطقة أبوعلامة بمحلية حلايب عبر شركة دال، على الرغم من كونها في طور الدراسة والاقتراح، لكنها تؤدي إلى خصخصة الميناء وتشريد آلاف العاملين فيه، وتخترق السيادة الوطنية حال تم منح الإمارات حق إدارة الميناء وليس التأهيل والتطوير، حيث سيكون مصير 14 ألف عامل من عمال الشحن والتفريغ مجهولاً.
بعد سياسي
أوضح الصحفي هاشم عثمان أن هناك بعداً سياسياً يتمثل في أن المجلس الأعلى لنظارات البجا يرفض قيام هذا الميناء وتدخل الإمارات، لارتباط الأمر بتنفيذ مسار شرق السودان في اتفاق سلام جوبا، والذي يقف ضده مجلس النظارات، مشيراً إلى أن إغلاق ميناء بورتسودان من قبل المجلس في سبتمبر 2021م، أدى إلى انهيار واضح في الميناء من حيث العائدات.
مابعد انقلاب 25 أكتوبر
بعد انقلاب 25 أكتوبر في 2021م، عملت الإمارات على إعادة فتح الملف تدريجياً، حيث بدأ نائب رئيس سلطة انقلاب 25 أكتوبر، محمد حمدان دقلو حميدتي، في التحرك تحت دعاوى حل مشكلة شرق السودان، ووضع مع الإدارات الإهلية مشروعاً لرسم الحدود بين القبائل، والغرض منه هو التوصل لتقسيم المجتمعات في الإقليم لمعرفة المكون الاجتماعي الذي تتبع له أراضي البحر الأحمر، بحسب تقسيمات جغرافية قديمة في عهد المستعمر الإنجليزي؛ ولكن اصطدمت هذه الخطط بوقوف مجموعات محلية ضد مسألة منح الميناء للإمارات، حتى أعلن أسامة داؤود في حديثٍ لرويترز عن عقد اتفاق مع مجموعة موانئ أبوظبي للاستحواذ على ميناء بورتسودان بقيمة 6 ملايين دولار ودفع 300 مليون دولار كوديعة استثمارية لبنك السودان المركزي، وهو ما تراجعت عنه لاحقاً المجموعة في بيان صحفي ونفت التوصل لاتفاق.
أريتريا ..ميناء ومطار
توسُّعُ الإمارات لم يتوقّف، فقد وقّعت اتفاقاً في 2015م مع الحكومة الأريترية لإنشاء ميناء تستحوذ على تشغيله لمدة 30 عاماً، على أن تدفع 30% من دخل الموانئ لأريتريا، وتحصلت فوق الصفقة على مطار تبلغ مساحة مدرجهِ 3500 متر مربع، لاستخدامات الطائرات الكبيرة.
الحديدة ..عدن
عملت الإمارات للاستحواذ على ميناء الحديدة، وهو ثاني أهم ميناء بعد ميناء عدن، ويقع في منطقة استراتيجية ويرتبط بقناة يبلغ طولها 11 ميلاً بحرياً وعرض 200 متر، ومساحته الداخلية 3 ملايين متر مربع. وسيطر الحوثيون على المدينة والميناء لفترة طويلة، ودارت معارك قادتها الإمارات عبر التحالف العربي مبررةً ذلك بدخول الأسلحة عبره لإمداد الحوثيين. وكان الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، وقع عقوداً في 2008م مع الإمارات لمنحها امتيازاتِ العمل في ميناءي الحديدة وعدن ومنح مجموعة موانئ دبي حق إدارة ميناء عدن لمدة مائة عام كاملة، وتم إلغاء الاتفاقية بعد سقوط نظامه في 2011م.