الخرطوم – حاتم الكناني
دمي واحد
وجسدي ثورة
وأرى بعين الحبيب الشوارع حرة
والقرى لا تنام
من لذة النظر إلى وجه الحرية.
تضخَّمت الخرطوم، وفي رواية أُخرى “تريَّفت”؛ نتيجة انعدام التوازن في التنمية، والحروب والكوارث الطبيعية، والبحث عن سبل العيش بعد استنفادها في كامل أقاليم السودان؛ وأسهم كُلُّ ذلك في تكوين تجمّعات سكانية، أو على أفضل الفروض، مجتمعات هشَّة على أطراف العاصمة. إنسان هذه المجتمعات إضافة إلى الظروف المُباشرة التي دفعته للهجرة إلى الخرطوم، يُعاني أزمة مع المكان، فليست الخرطوم أرض أحلامه، وهو مُضطّرٌ للبحث عن أحلام أخرى تشبه أحلام المكان الذي أُقحم فيه قسراً، فخلّقت هذه الظروف إنساناً شكَّله القهر، أو “الإنسان بلا روابط” بحسب تعبير زيجمونت باومان.
ينزع هذا الإنسان إلى تشكيل روابط اجتماعية هشَّة، لا تُؤهِّله لاستيقاظ الأحلام الجمعية، وتتأزَّم علاقته مع المكان المقسور على الوجود فيه. إنه أشبه بإنسان العصر الحديث السائل الذي يقول عنه باومان: “هو ومن يخلفونه بلا روابط قوية يستدعي قطعها، بل عليهم أن يشكلوا بأنفسهم ما يشاءون من روابط تمكنهم من التفاعل مع بقية العالم البشري، مستعينين بمهارتهم وبراعتهم. فما داموا بلا روابط، فلا بد أن يخلقوا بعض العلاقات لسد الفجوة التي تتركها الروابط المفقودة أو البالية. فلا بد لهذه العلاقات من أن تكون فضفاضة بحيث يمكن فكها مرة أخرى بسهولة، من دون تردد عندما تتغير الظروف، ودائماً ما تتغير الظروف في عصر الحداثة السائلة”. ويضيف: “تلك الهشاشة التي تُعانيها الرابطة الإنسانية والإحساس بعدم الأمان الذي تبثُّه تلك الهشاشة، والرغبات المتعارضة التي يدفعها ذلك الإحساس، إلى إحكام هذه الروابط مع إبقائها فضفاضة في آن”. الحب السائل ص27.
وبلا وعي غير وعي ضرورة أن يبقى حياً، تصير الحقوق لدى إنسان هذه المجتمعات رفاهية مُرتَبِطة بالسلطة السياسية التي أنتجت وجوده بهذه الصورة؛ فوجوده ليس مُرتَبِطاً بتاريخ أو علاقة حميمة بالمكان، بل بالمحافظة على كسبه الشخصي من الخدمات التي تزعم السلطة إسداءها له، وتُلوِّح له بفقدانها المُحتمل؛ فيراها ميزاتٍ تزيد وتنقص (نعمة الأمن مثلاً!)، لا حقوقاً دستورية أو تعاقدية. ولعل هذا الأمر، هو ما يفسر اشتعال فتيل الثورة في المناطق التاريخية بالعاصمة القومية (بري – شمبات – العباسية- ود نوباوي على سبيل المثال)، ثم انتشارها ببطء وتفاوتٍ في أحياء أطراف العاصمة المُشكَّلة من عجينة القهر والحرب وميلان طاولة التنمية؛ كما يفسر ذلك أيضاً استمرارها في المدن البعيدة نسبياً عن حالات الحرب الطويلة الأمد (سنار – مدني – عطبرة – دنقلا – القضارف – بورتسودان).
استغل النظام المُباد فزاعة الأمن في مواجهة هذا المد السكاني على أطراف الخرطوم التي اكتسبت قيمتها المركزية المتوهمة منذ العهد الاستعماري وما بعده، ضمن فزاعات المقارنة مع ما آلت إليه دول الربيع العربي، مستخدماً خطاباً مكروراً لثلاثين عاماً، متجاوزاً وعي الشارع. والحال كهذا، فإن ثقل الثورة وقع جلُّه على وعي الطبقة الوسطى (هشة التكوين) التي أُفقِرت بالعاصمة والمدن والقرى، وهو ما ظهر في أكثر من موجة احتجاجات منذ العام 2011م (30 يناير)، مروراً بهبة سبتمبر المجيدة 2013م؛ حتى ديسمبر 2019م حينما اشتعل فتيل الثورة بدءاً بالدمازين فعطبرة فالقضارف، ثم وصلت إلى الخرطوم، ولربما لم يشهد السودان في تاريخه الحديث ثورة بمثل هذا التوسع في أرياف ومدن الوسط والشمال النيليَّيْنَ!
إن خطاب (فزاعة الأمن) ظل يفقد تأثيره مع اطراد المقاومة؛ ففي اللحظة التي يرسل فيها جهاز أمن النظام المباد تصريحا بأن حركة تحرير السودان، (عبد الواحد نور) ضالعة في تأجيج الأوضاع في البلاد، ترد الشوارع: (يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور).. ببساطة تفجرت ينابيع الثورة من الوعي بأن نظام الجبهة الإسلامية فَقَدَ خطاباته جميعاً (المشروع الحضاري – الإسلام هو الحل – حروبه العبثية – دعوى المحافظة على الأخلاق – خطاب التفريق على أساس العرق والدين)، وأتبعها بانهيار اقتصادي اتضحت معالمه في كساد الحركة اليومية.. سقطت خطابات النظام أخلاقياً من قبْل “اقتلاع رأسه” – كان تعبيراً دقيقاً من ابن وزير دفاع نظام الإنقاذ – في الحادي عشر من أبريل، سقط أمام شفافية شعار (حرية سلام وعدالة).
جميل جدا