الخرطوم – انتقال
انطلقت ثورة ديسمبر المجيدة، بأهازيج وإيقاعات الهتاف الثوري الهادف والمُعبّر عن تطلعات وآمال الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة.
كان الشعر والرسم والتلوين في ثورة ديسمبر موكباً قائماً بذاته، مُتّجها صوب القصر ليُسقِط الظلام وعسف التطرف وقوانين محاصرة الفنون وإغلاق المسارح وتجفيف دور السينما ومصادرة الكتب والتنكيل بالمبدعين.
موكب الفنون المُتّجه صوب قصر الشعب، مازال متقدماً وحاشداً مُعبأً بالمعاني والرسائل وجراحات الماضي، موجوداً بمكتبة الإذاعة السودانية التي أحرقها الظلاميون من مهووسي التطرف.
بدور السينما التي حاصروها وجفَّفوها، وباعوا ما تبقّى منها في سوق الظلام، ومستنقعات الفساد. وموكب كل شعراء الحرية والسلام والعدالة الذين عُذّبوا والذين هُجّروا والذين واجهوا زنازين الحبس بكلماتهم.
ونذكر منهم الشاعر أبو ذر الغفاري الذي اقتاده نظام ظلام الإخوان المسلمين بداية التسعينيات، من منزله بالحاج يوسف ولم يعد حتى الآن.
جذوة النار “الشعر والثورة “
أدى الشعر دوراً أساسياً، وبرز عاملاً رئيساً في ثورة ديسمبر المجيدة، منذ لحظة التعبئة وصولاً لمرحلة الثورة نفسها، وما زالت جذوة النار ورأس الرمح والمُعبّر عنها.
حضور الشعر في الذاكرة النضالية قديمٌ جدّاً، وحاضر في كل تفاعلات السودانيين نحو قضايا التحول المدني ومطالب العدالة، كما أن له مساحة واسعة في الخطاب والحراك اليومي المُمتد، مع تدافع السيول البشرية في الشوارع التواقة إلى الحرية والسلام والعدالة.
في ديسمبر ظهر الشِّعر بشكل كبير في المواكب والوقفات الاحتجاجية، عبر أصوات الثوار المشحونة بالأمل، وهم يرددون قصائد الدوش وحميد ومحجوب شريف، وغيرهم من شعراء القضية والنضال.
من الملاحظ أيضا في ديسمبر، أن الشعر أصبح من أدوات إعلان انطلاق المواكب – إضافة إلى زغاريد الكنداكات – في شكل (الكولنق) أو الهتاف الحر، دون ترديد أغنيات، وهي حالة سبق أن عرّفها الشاعر الكبير أزهري محمد علي بقوله: “الشعر أصبح يتحرك ككائن ثقافي حر منفرد لا يتسول كتف المُغنّي”.
جداريات خالدة … “الرسم والتلوين”
في ثورة ديسمبر المجيدة برزت الجداريات والرسومات المُعبّرة عن الآمال والأحلام والمقاومة بشكل كبير ولافت.
شكلت الجداريات والرسومات نموذجاً سهلاً وسريعاً لإيصال كثيرٍ من الرسائل والقضايا التي كانت تحتاج إلى مقالات وصفحات كثيرة للكتابة عنها؛ إلا أن ريشة الفنان استطاعات اختصار كل تلك الحروف، والشرح في إطار لوحة تعبر عن القضية والهدف.
وما بين جداريات ثورة ديسمبر، وبداية انطلاق هذا النوع من الفنون في الولايات المتحدة مقاربات؛ فإبان فترات الفصل العنصري بين السود والبيض كانت هناك أدوات مختلفة للمقاومة ورفض التمييز وابتكار أدوات جديدة ومتعددة للمقاومة، كانت أهمها المقاومة عبر الفنون والرسم، إذ انتهج السود الكتابة على الجدران والرسم وصياغة أغنيات الراب، وكانت كلها أدوات تحمل مضامين العدالة والمساواة، وكانت سريعة الانتشار وبسيطة الفهم ولديها قدرة كبيرة على التداول.
في ثورة ديسمبر الظافرة، استخدمت أدوات الكتابة على الجدران ورسومات الانتهاكات التي تمارسها أجهزة الدولة ضد المتظاهرين السلميين العُزّل، حتى وصل الثوار لمحيط القيادة العامة، وكانت ساحة الاعتصام معرضاً للرسومات والفنون للذين كانوا يعانون من أيديولوجيا النظام وتجريمه للنحت والرسم. المبدعون الذين كانت تضيق عليهم المساحات، رسموا مساراً جديداً لثورة ديسمبر، ووثقوا لها بشكل جديد ومختلف وبرؤى فنية عالية.
وتر المغني أسقط الطاغية
الثابت والمُشاهَدُ طوال تاريخ الشموليات في السودان، أن أول من يقاومها هم المبدعون بشكل عام والفنانون بصفة خاصة. وربما لأن الفنان في حالة قلق وبحث دائم ولا يستطيع التحليق بجناحيه إلا في ظل الحرية، ولربما لأن الفنان الحق هو مترجم شعور الناس ولسانهم والمعبر عن أحلامهم وتطلعاتهم، لذلك واجه كثيرون منهم السجون والاعتقال والنفي، ولكن لم ينكسر وتر المغني، وظلوا يرددون أغنيات التغيير والحرية حتى سقط الطاغية في 11 أبريل المجيد.
خروج عن محاكم التفتيش الظلامية
يمكننا القول إن المسرح هو أكثر من تضرر من حكم الإسلاميين وتم إهماله عن قصد وتجريمه في كثير من الأحيان، ووضع ضوابط واشتراطات تتنافى مع فكرة الفنون المسرحية والدراما على وجه الخصوص؛ فكانت النصوص تتعرّض لمحاكم التفتيش الأخلاقية، والدراما تعاني من إهمال التمويل وإطباق الخناق عبر الضوابط الأيديولوجية المُتطرّفة للنظام البائد ومشروعه التخريبي المسمى “المشروع الحضاري”.
إلا أن المبدعين والمؤمنين بالفنون والمسرح على وجه التحديد، ودوره في رفع الوعي وتقديم الاستنارة، لم ينكسروا للتضييق، واتخذوا من الشوارع مسرحاً واسعاً لتقديم الفن، فقامت مبادرات وجمعيات تتخذ من الشارع العام مركزاً لتقديم عروضها وإيصال رسالتها للناس، مثل مجموعة (شوارعية) على سبيل المثال وغيرها كثير.
حتى جاء وقت الانفتاح على الميديا والمساحات التي لا يمكن لنظام الإخوان المسلمين السيطرة عليها؛ فأصبحت منصات اليوتيوب وفيسبوك وغيرها منصات يعمل عبرها كثيرٌ من المبدعين لتقديم أعمالهم؛ إلى أن اشتعلت ثورة ديسمبر المجيدة وفتحت نوافذ جديدة للتحليق الحر.
صوت الثورة
يقول الشاعر البراء عبد الله: “لم تنفصل الفنون عن الوجدان السوداني وعن هموم الناس، كان الفن ومازال صوت الناس وملهمهم وضميرهم الحي يحتجون به ويرفضون الظلم عن طريقه، من مهيرة والعطبرواي مروراً بكل الانتفاضات والثورات التي قاومت الديكتاتوريات وصولاً للجيل الذي خلق ثورة بالفن بذاته ولذاته”.
“في ديسمبر قاوم المبدعون والفنانون من شعراء ومسرحيين ومغنين وتشكيليين بمختلف أعمارهم ومواقعهم، ليس عبر وجودهم في المواكب والتظاهرات فقط، بل قدموا ذروة منتوجهم في سبيل القضية، فظل الحصار والخناق يضيق على السفاح ونظامه من كل حدب وصوب”، يقول البراء ومن ثم يضيف لـ”انتقال”: “كانت أهازيج الأغنيات والكلمات الجديدة والحديثة هي وقود الشباب ومصدر من مصادر إلهامهم ويتم تشغيلها قبل وبعد المواكب بشكل مستمر يحفظها الصغير والكبير”.
وقد كان الفن أيضاً حاضراً بشكل حقيقي في اعتصام القيادة العامة، فتزينت الجدران بالجداريات التي كان جزءٌ كبيرٌ منها لمسة وفاء لأرواح الشهداء الأكارم وإشارة وتأكيداً على أننا على الدرب سائرون.
“دور الفن في المقاومة كبير جدّاً وعظيم بعظمة هذه الثورة الجبارة، والذي قُدِّمَ من فن كان على قدر التحديات، وما زلنا ننتظر من المبدعين إكمال مشروع ثورة الفن ولا يوجد أجمل وأفضل إرشيف للثورة غير فنونها”، يختم البراء.
الفن.. ذاكرة النضال
“للفنان قضية”، هكذا يقول لـ”انتقال” المغني ممدوح جاد، عضو فرقة ساورا وكورال الحزب الشيوعي، ويواصل: “منذ بداياتي في الجامعة تعلمت معنى الغناء للحرية والسلام والعدالة كما علمني الفن أن الإبداع رفيق للحريات والديمقراطية، فكان حضور الفن والغناء تجديد متجذر وقديم في ذاكرة النضال السوداني نحو التغيير والديمقراطية”.
ويضيف: “للفنان قضية، لذلك كان لثورة ديسمبر إرث متراكم من الأغنيات الثورية وإسهامات المغنين من قبلها، وجاءت ديسمبر كذلك بأغنياتها مستفيدة من تراكم تلك التجارب؛ فكان الفن حاضرا في ديسمبر وشعلة منها ومساهم اساسي فيها بالتعبئة والحماس والتنوير”.