الخرطوم: انتقال
كشف تقريرٌ صادرٌ عن منظمة الهجرة الدولية، في أغسطس الماضي، عن وجود 4 ملايين سوداني بمصر، وهو العدد الأكبر مقارنةً بمواطني دولٍ أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن يقيمون بذاتِ البلد. ووفقاً لمنظمة الهجرة الدولية، فإن هذه الإحصائيات تمّ جَمعُها وتصنيفُها من سفاراتِ هذه الدول ودراستها. وتختلف أسباب هجرة السودانيين إلى مصر، ما بين البحث عن حياةٍ أفضل نتيجةً لسوء الأوضاع الاقتصادية في البلاد، عقب انقلاب 25 أكتوبر، أو طلباً للّجوء والهجرةٍ لأوطانٍ بديلة، أو بحثاً عن فُرص العمل والدراسة.
ويؤكد محللون سياسيون، أن القاهرة استفادت بشكل كبير، من حالة عدم الاستقرار السياسي والانهيار الاقتصادي الذي يشهده السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر، والذي تدعمه الحكومة المصرية، وتستقبل قادته بحفاوة منقطعة النظير، في زياراتهم الكثيفة والمُتكررة إلى القاهرة.
تضارب الإحصائيات
تُقدِّر مفوضية اللاجئين، بناءً على إحصائيات، عددَ السودانيين المُقيمين بمصر، بين مليونين إلى خمسةِ ملايين، منهم 52 ألف طالب لجوء. وتعرّض مواطنون سودانيّون في مارس الماضي إلى اعتقالاتٍ تعسفيّة من السلطات المصرية، إذ أوردت منظمة العفو الدولية “هيومن رايتس ووتش”، في تقريرٍ لها، اعتقال 30 سودانياً من ديسمبر 2021م حتى يناير 2022م، وتمّ إخضاعهم للعمل القسري بعد احتشادهم أمام مقرّ مفوضية الأمم المتحدة للاجئين. وأشارت تقارير صحفية سابقة، إلى تعرّض سودانيّين للمضايقاتِ الأمنية، بعد تعبير بعضهم عن رفضهم لتولّي الجيش السلطة في السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر. ويظهر تضاربٌ في الأرقام والإحصائياتِ بين تقارير منظمة الهجرة والدولية ومفوضية الأمم المتحدة للاجئين، إذ يُشير تقرير الأولى لأربعة ملايين سوداني بمصر، وتشير الثانية إلى وجود مليوني سوداني إلى 5 ملايين سوداني، مع عدم وجود إحصائياتٍ رسمية من الجهات المختصة بالسودان؛ غير أن الثابت أن بين هؤلاء أصحاب رؤوس أموال فرّوا هرباً من الكساد والتضخّم، والضرائب الباهظة التي ظلت سلطات الانقلاب تفرضها على التجار والمواطنين؛ لتُنعش هذه الهجرة خزائن القاهرة، في وقت أصبحت فيه الخرطوم طاردة للاستثمار، ومُنفّرة لرأس المال.
الأوضاع الاقتصادية
اجتذبت مصر مؤخراً آلاف السودانيين الذين فضّلوا الاستقرار ونقل حياتهم إليها، بحثاً عن العمل أو الدراسة أو العلاج في المشافي المصرية. وبعد تردّي الأوضاع الاقتصادية في السودان، خاصةً عقب انقلاب 25 أكتوبر، اختارت مئات الأسر إما بيع منازلها والعيش في مدن الجارةِ الشمالية، أو عرضها للإيجار والاستفادةِ من عائداتها في مُقابلة تكاليف المعيشةِ هناك. وأثّر ارتفاع معدل التضخم في 2022م – الذي وصل لـ 117% – بشكلٍ كبير على حياةِ الناس اليومية، علاوةً على ارتفاعٍ مطّرد في السلع والخدمات؛ فسجلت أسعار المُستهلَك 422.8%، مع قلةِ مصادر الدخل لكثيرٍ من الفئات، وصعوبة الحصول على مصادر دخلٍ جديدة، إضافة إلى خروج مئاتِ العاملين في التجارةِ والاستثمار من السوق، ومطالباتِ العاملين في الوظائف الحكومية بتعديل الرواتب، والدخول في إضراباتٍ عن العمل في قطاعاتٍ حكومية مختلفة.
وعلى الرغم من أن الهجرة إلى مصر، بدأت منذ سنوات، إلا أن نسبتها تزايدت بعد انقلاب 25 أكتوبر بصورةٍ ملحوظة، بسبب فقدان البلاد فرصاً اقتصادية لتحسين الأوضاع، إذ أدى الانقلاب إلى تجدد أزمات الكهرباء والوقود وغاز الطبخ، وارتفاع أسعارها بصورةٍ كبيرة، وانخفاض قيمة الجنيه مقابل العملاتِ الأخرى من فترةٍ لأخرى، إضافةً لزياداتٍ كبيرة في الرسوم الحكومية والجمركية، ودخول عددٍ كبير من تجار الجملةِ والتجزئة في ولايات السودان في إضراباتٍ وإغلاق الأسواق احتجاجاً على الضرائب العالية التي تفرضها السلطات.
وفقد السودان 94% من المُساعدات المالية التي خُصِّصت للسودان، والتي بلغت 4.643 مليار دولار، تم الحصول على 268 مليون دولار منها فقط قبل الانقلاب. وبسبب استيلاء الجيش على السلطة، جُمّدت مساعداتٌ واستثماراتٌ دولية، كانت في طريقها إلى البلاد، وتوقفت العديد من المشاريع الإنتاجية، التي فضّل العاملون فيها المغادرةِ إلى مصر. ونفذت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي هذا العام زيادة جديدة على ضريبة الأرباح، بلغت 100%، وعلى ضريبة أرباح الأعمال للقطاعات الصناعية بلغت 50%، فضلاً عن صدور تقارير رسمية تنذر بأن ملايين السودانيين مُهدَّدون بندرةِ الغذاء.
البحث عن حياة أفضل
إيمان حمد النيل، استقرت مؤخراً بمصر، بعد أن غادرت برفقة أبنائها بغرض الدراسة والبحث عن فرصةٍ للعمل، تُضاهي خبراتها المهنية ومؤهلاتها الأكاديمية، قالت في حديثها لـ “انتقال”، إن الحياة والتعليم أفضل بمصر لأسبابٍ منها استقرار العام الدارسي وأفضلية الوضع الأمني مقارنةً بالسودان. وفيما يلي أسعار السلع والخدمات الأساسية أضافت إيمان: “رغم ارتفاع الأسعار بمصر، لكنها في حالة ثباتٍ ملحوظ، وتستطيع أن تضع ميزانيتك اليومية على ضوئها دائماً، وتحديد حجم المنصرفات، وهذا يستحيل تطبيقه في السودان حالياً”.
وقالت: “فضّلتُ الهجرة إلى مصر للمعاملة الخاصة التي يتمتع بها السودانيون ومرونة قوانين الهجرة والتعليم، وبخلاف ذلك فإن السفر إليها أسهل من أي دولةٍ أخرى”، وأوضحت أن الوضع السياسي وحالة السيولة الأمنية في السودان وتأثيرهما على الوضع الاقتصادي، من الأسباب المباشرة في اتخاذها قرار الهجرة. ورهنت إيمان عودتها إلى البلاد بتحسن الأوضاع، مضيفة: “من حق أولادي علي، أن أضمن لهم حياة كريمة، ومتى توفر الجزء اليسير من الحياة الكريمة سنعود”.
وأردفت بالقول: “كنت أعمل في وظيفة محترمة اجتماعياً في السودان، لكنها لا تُغطّي منصرفات حياتنا، وتلبية متطلبات أبنائي، فابني الأكبر في الجامعة، وشقيقته دخلت المرحلة الثانوية مؤخراً، ولم أستطع توفير ما يلزمهم في السودان بالشكل المطلوب”.
غياب الإحصائيات الدقيقة
ومع عدم وجود إحصائياتٍ رسمية لعدد السودانيين المقيمين بمصر خلال العام الجاري، إلا أن رئيس سلطة انقلاب 25 أكتوبر الفريق عبد الفتاح البرهان، ذكر في مؤتمر صحفي، عقب زيارتهِ لمصر، ولقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مطلع الشهر المنصرم، أن أعداد السودانيين 4 ملايين مواطن، و 4 آلاف منهم يدرسون في المؤسسات التعليمية المختلفة. ومع تذبذب الأوضاع وعدم استقرار الدراسةِ في المستويات الجامعية والثانوية والمراحل الأدنى، علاوةً على ارتفاع أسعار الرسوم الدراسية، فضلت العديد من العائلات ابتعاث أبنائها للدراسة في مصر، حيث يستفيدون من المعاملة التفضيلية التي يتلقاها السودانيون في المؤسسات المصرية.
ويستفيد المهاجرون السودانيون بمصر من اتفاقياتِ الحريات الأربع، والتي كانت قد وُقعت بين سلطات البلدين سنة 2004م، من حيث التنقل والتملك والإقامة والعمل.
التجارة والأعمال الهامشية
“وائل” أحد السودانيين المُقيمين بمصر منذ سنتين، أكد لـ “انتقال”، أن الأعمال الهامشية هي الخيار المُتاح أغلب الوقت، لكثير من الذين يريدون الحصول على مصادر دخلٍ تُمكّنهم من تلبيةِ متطلبات حياتهم اليومية؛ هذا بخلاف أصحاب رؤوس الأموال الذين استقروا في القاهرة، التي تشجع الاستثمار خلافاً لما يحدث في السودان.
“تسببت الأوضاع في السودان في هجرة كثيرٍ ممن يعملون في القطاعات المُنتجة، ليختاروا القاهرة محطة جديدة. ورغم التنافس المحموم هناك على فرص العمل، لكن ظروف السودان أضحت لا تطاق، عقب الانقلاب، فالكساد عم كل القطاعات”، يقول وائل، ثم يضيف: “يعمل آخرون تجاراً في سوق العتبة الشهير، وكثيرٌ منهم تخصص في إرسال بضائع إلى السودان”.
مخالفة القانون
قلة الوظائف وضيق فرص العمل في مصر، جعل بعض المقيمين يلجأون إلى الدخول في أعمالٍ تُخالف القانون، فقد أوقفت السلطات المصرية في الفترات الماضية بعضاً من السودانيين يعملون في تجارةِ العملة.
مناطق الكثافة
يفضل المهاجرون إلى مصر، الإقامة وامتلاك واستئجار الشقق في وسط القاهرةِ والأحياء الأرخص نسبياً من ناحية تكاليف السكن، ويوجدون بشكل كبير في كلٍّ من أحياء المهندسين وفيصل وعابدين والدقي والمعادي، وحاراتٍ مثل الصوفي في وسط القاهرة، وفي مناطق مختلفة من الإسكندرية ومدينة أسوان. وحسب إحصائياتٍ سابقة، فإن أكثر من 500 ألف شقةٍ في مصر يمتلكها سودانيون، مما أنعش القطاع العقاري بمصر، وأسهم في انهيار كبير في ذات القطاع بالسودان.
من رحلة علاج إلى بدء مشروع
خضر سراج، افتتح مطعماً للأكلات الشعبية السودانية في حي فيصل بالقاهرة، بعد استقرارهِ منذ عام بصورةٍ شبه نهائية بمصر، لتلقي العلاج والاستشفاء من وعكةٍ صحية أصابته عقب فضِّ اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019. وأوضح خضر لـ “انتقال”، أنه بدأ مشروعه من الصفر وتقدم به للأمام، مضيفاً: “الأوضاع في السودان صارت صعبةً للغاية، والحياة اليومية مُكلّفة بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومصر أفضل من ناحية المعيشة والاستثمار والصحة والتعليم”.