رأي

القاتل صبوح الوجه الذي تعرفه

حمّور زيادة

تتلاقى الأعين كل صباح عند بائع الحي. تتبادلان السلام، وربما بعض الأخبار العابرة.

أو ربما تعرفه من مسجد الحي. يصلي المغرب جوارك. ويأمركما الإمام بسد الفرج وتسوية الصفوف، حتى لا يدخل الشيطان بينكما. وحين تفرغان، تتصافحان وتقولان “تقبّل الله”. يزعج ذلك الذين يعتبرونها بدعة، لكنكما لا تهتمان.

أو لعلك تدخل منزلك فتجد ابنه يلعب مع ابنك؛ فهما زميلان في المدرسة. يناديك ابنه بـ”عمي”، ويناديه ابنك بـ “عمي”.

ثم فجأة تصخب المدينة، وتشتعل الفتنة، فإذا به يدخل عليك بيتك غاضباً لأمر لا تعلمه، وربما لا يعلمه هو.

يحمل سلاحاً، ربما يكون نارياً، وربما سلاح أبيض بدائي. جاء ليقتلك، ويقتل عائلتك.

في لحظاتك الأخيرة ستتذكر ما قاله لك في المسجد قبل ساعات: “تقبّل الله”. وحين تغمض عينيك لتذهب، ستكون مندهشاً. إن الوجه الذي رأيته قبل موتك ممتلئاً بالغضب والكراهية، هو وجه صبوح تعرفه، لكنك لا تعرف لماذا كان يكرهك لهذه الدرجة.

هكذا تكون الحروب العرقية، إذ يطالب شخص بقتلك لأنك تنتمي في جدك البعيد، البعيد جداً، إلى شخص غير جده البعيد. ربما كان الجدان أخَوَان، أو من نسل واحد، مثل كثير من قصص الأنساب السودانية. وهذا الجد لم تره، ولا تعرف عنه شيئاً إلا حكايات الانتساب إليه؛ فهو قد عاش ومات في القرن الخامس عشر، أو ما قبله، لكن إليه تُنسب القبيلة. ولأجل هذا النسب تستحق الموت في نظر جارك.

يبدو الأمر عبثياً وسخيفاً جداً، لكن البشر لا يكفون عن تكراره. في رواندا إبان الحرب الأهلية، اقتحم القتلة منازل جيرانهم، اغتصبوا النساء وقتلوا الرجال. بعض الشهادات الموثقة تحكي عن أسر ظنت أن الجيرة يمكن أن تحميهم؛ ففروا من منازلهم إلى منازل الجيران الذين يعرفونهم عمرهم كله. وكان الجيران سعداء باستضافتهم، وسعداء بتسليمهم بعد ذلك إلى المليشيات لتقتلهم.

في الصومال حدث مثل ذلك. تقول واحدة من الشهادات إن جيراناً يسكنون ذات البيت، ويجمع بينهم فناء واحد، قتلوا بعضهم في ذات الفناء الذي كان أطفالهم يلعبون فيه مساء.

ليس لقاتلك مشكلة شخصية معك، لكنه لسبب ما قرر أن انتسابك لجد مغاير مبرر كاف لقتلك.

وحين تهدأ الفتنة، ويجف الدم المراق على الطرقات، يعود جارك إلى سكونه وطيبته التي كنت تعرف، ويشرق وجهه الصبوح مرة أخرى، فقد انتهت الحرب العرقية، وعدنا كلنا من آدم. والنبي أوصى على سابع جار. وجارك القريب ولا ود أمك البعيد. وكل المحفوظات الجليلة التي نكررها بلا معنى.

هكذا مات آلاف السودانيين على أيدي جيرانهم اللطفاء، القتلة المحتملون طالما نُعلي من قيمة القبيلة. قبل حوالي 5 سنوات زارني بالقاهرة شاب ترك الحركة الإسلامية وأصبح يروج للصراع القبلي. سألني: ماذا ستفعل إن نشبت حرب عرقية وأصبحت مستهدفاً بسبب جدك البعيد؟ قلت له: هذه حرب لا يُشرّفني أن أكسبها. وقتل لا يمكنني أن أرتكبه.

بعد فترة قصيرة أصبح الشاب من قادة الرأي، ويتبعه كثيرون يجهزون أسلحتهم لليوم الذي يقتلون فيه جيرانهم.

ما حدث في النيل الأزرق، وفي دارفور، وفي الشرق، سيحدث في الوسط والشمال. إنها مسألة وقت. وقد خضنا تمارين مناسبة لذلك في أحداث مشابهة. مثل الاثنين الأسود وما تلاه، حينما كان القتل في الشوارع على الهوية. يوم الاثنين كنت ستموت لأن ملامحك شمالية. ويوم الثلاثاء كنت ستقتل من ملامحك الجنوبية.

في ذلك الاثنين من عام 2005م، كنتُ أتحرك بسيارتي في الخرطوم عندما أشار لي صبي جنوبي خائف. وكنت أنا خائفاً. هذا ما يفعله الاقتتال العرقي بنا. الخوف من الجميع، ومن أنفسنا.

هل يمكننا الهرب من هذا المصير؟ ربما. لكن لا يبدو أننا نرغب في ذلك. هناك قناعة قوية لدى كل عرق انه قادر على حسم الأمور، أو ربما تغيير موازين القوى لصالحه. لا أحد يخشى قتل جاره. يبدو الجميع مقتنعاً أن في مقدورنا خوض ذات الطريق الذي سارت فيه رواندا والصومال وغيرهما ونصل إلى نهاية مختلفة.
ومن يحذرون من المصير السيئ أشبه اليوم بأنبياء بني إسرائيل. الذين يمشون في الطرقات ينذرون الناس بسوء العاقبة ولا يستمع لهم أحد.
الكارثة تقترب، والجيران اللطفاء يجهزون أسلحتهم.
أتمنى فقط من جاري حين يقتلني ألا يترك باب غرفتي مفتوحاً بعد أن يغادر؛ فحتى بعد موتي سيكون لديّ رِهاب الأبواب المفتوحة. أعتقد اني أستحق منه هذه المجاملة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى