رأي

عن خصوصيتنا المجتمعية.. المُفترى عليها، والمتفرية علينا

حمّور زيادة

في كل خطوة تجاه الحداثة يجابه دعاتها بحجة “مراعاة خصوصية مجتمعاتنا”. تُدبج المقالات، وتهدر الخطب مطالبة بمراعاة هذه الخصوصية، وألا تتحول مجتمعاتنا إلى نسخ مشوهة من المجتمعات الغربية، تقلدها وتنقل عنها.

وهي قضية تبدو للوهلة الأولى ذات مصداقية؛ لكنك إن تمهلت لتنظر في أي مواضع تُطرح هذه المسألة، فلعلك تجد أن حجة “الخصوصية المجتمعية” هي طريقة ملتوية لتكريس واقع رجعي، أكثر منها حجة لخلق واقع تقدمي أفضل يراعي ثقافتنا.

تُطرح مسألة خصوصية مجتمعاتنا عادة في قضايا مثل الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والسياسة.

فإذا طالبنا بالديموقراطية الليبرالية، قيل لنا: “لا بد من مراعاة خصوصيتنا المجتمعية التي لا تناسب هذا الشكل من الديموقراطية”. وباسم هذه الخصوصية يراد لنا أن نحكم بدكتاتورية الأغلبية؛ لأن مجتمعنا – حسب رأي أصحاب هذا الرأي – ليس مثل المجتمع الغربي.

كيف تطالب بدولة تساوي بين المواطنين جميعاً، لا تنحاز لأحد بسبب دينه أو عرقه؟ قد يصلح ذلك في أوروبا، لكن نحن هنا لنا “خصوصية”.

يمكن أن يُوقع الحكام على المواثيق الدولية كما يريدون، ويحتفوا في أروقة الأمم المتحدة بمعاهدات الحقوق، لكن لن نصادق عليها في برلماناتنا لأن لنا خصوصية.

في عام 2016م، وقف الرئيس المخلوع عمر البشير يلقي خطاباً تعرّض فيه لمسألة العقاب البدني للطلاب. وهي مسألة توقف عنها العالم المتقدم تقريباً، وما عادت نظريات التربية الحديثة تعترف بها؛ لكن بالنسبة للرجل الذي قاد انقلاباً عسكرياً في 1989م، على السلطة الديموقراطية المدنية المنتخبة، كان الامتناع عن جلد التلاميذ هو مجرد تقليد للغرب. قال المخلوع في شمم كاذب: “لا يمكن أن نكون مثل القرود نقلّد الغرب”. ثم حكى في فخر أن أحد معلميه عاقبه بالجلد ستين جلدة، ولم يتضرر. لم ينتبه العسكري البائس أنه كبر ليصبح واحداً من أشهر سفاحي زمانه.

في نقاش مسألة كهذه تظهر حجة خصوصيتنا، لا بد أن نجلد الأطفال لأن لنا خصوصية.

في الأيام الماضية انتهت انتخابات التجديد النصفي الأمريكية، وفاز فيها 10 مرشحين أمريكان من أصول صومالية – نصفهم على الأقل نساء محجبات – أصبحوا من مشرعي وواضعي قوانين الدولة الأمريكية؛ بينما في مجتمعاتنا ذات الخصوصية أريقت الدماء، وسقط قتلى وجرحى اعتراضاً على تعيين والٍ لشرق السودان، زعم معارضوه أنه وُلِدَ لأبوين لاجئين.

لست معنياً في هذا المثال بتقصي شجرة نسب الوالي السابق، إنما النظر إلى الحجة المدهشة، التي ترى أن قتل الناس، وحرق المتاجر، هو ثمن معقول لرفض تولي شخص وُلد في السودان، وله جنسية سودانية، لكنه – بحسب المزاعم – وُلد لأبوين غير سودانيَّيْن!

حين حدثت هذه المهزلة، هاجم المعترضون حكومة د. عبد الله حمدوك لأنها لم تراعِ الخصوصية المجتمعية لقبائل شرق السودان!

وهو ذات ما حدث عندما اختارت الحكومة سيدتين لمنصبَي والي نهر النيل، ووالي الشمالية. صرخ حماة الخصوصية غضباً، كيف تولّى نساء على مجتمعات شمال السودان دون مراعاة خصوصيتها. وقال قائل يرى في منطقه الحجة: هل يظن عبد الله حمدوك أننا في سويسرا ليختار نساء لهذا المنصب؟

ترى هنا كيف أن الخصوصية المجتمعية تعني حرمان مواطن سوداني من حقوقه السياسية الأولية، لأنه امرأة، أو لأنه سوداني بالتجنس. بينما السيدة الهان عمر، التي ولدت في مقديشو عام 1981م، أصبحت عضواً في الكونجرس الأمريكي؛ لكن طبعاً لا ينبغي أن نكون مثل القرود نقلد الغرب. فنحن قوم لنا خصوصية!

ولأن لنا خصوصية، يريد بعض الناس أن تكون لدينا قوانين تعاقب ببتر الأطراف، وبالصلب في الشوارع. لا تهمنا المواثيق الدولية، ولا كل الدراسات الإنسانية، ولا تطور المجتمعات البشرية، فنحن لنا خصوصية لا بد من مراعاتها.

سنستمر في ختان الإناث، لأننا قوم لنا خصوصية.

سيضرب الرجل أخته، أو زوجته. لا يمكن سن قوانين تمنع ذلك وتحفظ للمرأة كرامتها. فنحن قوم لنا خصوصية.

سيحكمنا الجيش، لأن خصوصيتنا تجعلنا نستهين بالحكم المدني. نحن مجتمعات تحتاج إلى الحزم والحسم، والضبط والربط.

هكذا يريدوننا وهم يصخبون بالخصوصية الثقافية والتاريخية والمجتمعية.

في تقديري أن الخصوصية ليست هي التي تجعلنا نقبل بحاكم دكتاتور، ونرفض الديموقراطية الليبرالية. هذه خصوصية مفترى عليها، وتفتري علينا. الخصوصية المجتمعية هي التي تجعلنا ندرك أننا مجتمع مشبع بقيم القبيلة وزعيمها، وشيخ الطريقة، والحاكم الفرد، لذلك نحتاج لتقليص عدد دورات الحكم. فإن كان العالم يمنح الرئيس دورتي حكم، فإننا نحتاج إلى تقليصهما إلى دورة واحدة. وإن كانت النظم البرلمانية لا تحدد عدد دورات حكم لرئيس الوزراء، فيمكن أن تحكم أنجيلا ميريكل ألمانيا منذ 2005م حتى 2021م، ويعود بنيامين نتنياهو إلى رئاسة وزراء إسرائيل كل بضع سنوات، فإن خصوصية مجتمعنا الذي لم يعتد على تداول السلطة تقتضي أن نحد من حق رئيس الوزراء البرلماني في عدد مرات الحكم.

إن دعاة “خصوصية مجتمعاتنا”، يتفقون مع نظرة عنصريّي اليمين الأوروبي التي ترانا مجتمعات متخلفة لا تصلح للديموقراطية ولا لحقوق الإنسان، ولا يناسبها للحكم إلا دكتاتور على نسق شيخ القبيلة، ولا تصلح للتمتع بالحقوق الديموقراطية التي يتمتع بها المواطن الغربي. لذلك ليست صدفة تلك التي تجعل فلاديمير بوتين ودونالد ترامب أكثر رئيسين محبوبين لدى دعاة الخصوصية هذه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى