محمد جميل أحمد
فيما تتداول بعض المصادر أخباراً بقرب إعلان وحدة لمجلسي نظارات البجا، بعد انشقاق المجلس في الصيف الماضي، عبر وساطة يقودها محمد طاهر إيلا – آخر رئيس وزراء للمخلوع عمر البشير – من خلال بث مقطع فيديو للمذكور يتحدث فيه عن ذلك؛ نتصور أن ثمة امتناعاً حقيقياً حيال أي قدرة للبجا اليوم – هنا والآن – على التعبير السياسي، ليس فقط عجز المجلس الأعلى لنظارات البجا عن ذلك؛ بل كذلك عجز حزب مؤتمر البجا – الذي انقسم إلى أكثر من 6 أجزاء – إلى جانب أحزاب بجاوية أخرى مثل حزب التواصل الذي انقسم بدوره إلى قسمين.
ويكمن الامتناع في أن الأسلوب الذي تنتهجه الكيانات البجاوية السياسوية في شرق السودان مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا، إنما هو في الحقيقة امتداد لمشروع تسييس الإدارة الأهلية؛ ذلك المشروع الخبيث والوصفة المسمومة التي دمر بها نظام البشير الفضاء السياسي لشرق السودان وخرَّب نسيجه الاجتماعي. لهذا فإن أصل الداء يكمن في تعذر السياسة واستحالتها من الأصل، مع كيانات كهذه، حتى لو توحد جميع البجا في حزب واحد، ما دامت رؤيتهم للعمل السياسي تنطلق من منظور قبلي مُثقَل بنزعات ماضوية استبدادية متأصلة، ونظرة قبائلية منغلقة حيال مفاهيم ملكية الأرض وغير ذلك من تصورات قائمة على العصبية والإقصاء والعزلة.
في مقطع الفيديو القصير بموقع فيسبوك يظهر محمد طاهر إيلا مبشراً بتوحيد قسمي المجلس الأعلى لنظارات البجا، وفق مقررات مؤتمر سنكات العنصري عام 2020م، مما يبدو فيه واضحاً أن الرجل من المؤمنين بمقررات ما سمي بمؤتمر سنكات، الذي يقول أول بند فيه: “قرر المؤتمر قرر تفويض المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة للتعبير عن قضايا الإقليم في كل المحافل!”.
فهل سكان إقليم شرق السودان هم البجا فقط؟ أم هم – في الحقيقة – سكان مواطنون من جميع السودانيين بجا وغير بجا، وفي هذه الحالة؛ هل يمكننا القول: إن الإقليم فوَّض المجلس الأعلى لنظارات البجا للتعبير عنه في كل المحافل؟
ثم هل بالفعل من تجمعوا في ما سمي بمؤتمر سنكات هم يمثلون كل البجا؟ ناهيك عن كل نظارهم وعمودياتهم؟ فإذا عرفنا، مثلاً، أن المجلس الأعلى لنظارات البجا عند قيام ما سُمّي بمؤتمر سنكات في العام 2020م، كان فيه ناظر واحد، هو محمد الأمين ترك، من بين ٦ نظار آخرين لقبائل البجا بشرق السودان، فكيف يدّعي ذلك المجلس أنه مفوض من جميع البجا، ناهيك عن كل إقليم شرق السودان؟
ليس الحديث هنا عن مؤتمر سنكات (حيث أفردنا له قبل سنتين مقالاً قبيل انعقاده في عمودنا الراتب بصحيفة اندبندنت عربية)؛ ولكن فقط لكشف حقيقة أن محمد طاهر إيلا الذي جاء مؤخراً من مصر، هو جزء من مخططي حراك الفوضى الذي كان ينشط فيه المجلس الأعلى لنظارات البجا، كمخلب للثورة المضادة التي اتخذت من الشرق ميداناً لمعركة إجهاض ثورة ديسمبر المجيدة. وبالتالي فإن اعتراف إيلا بمقررات ما سمي بمؤتمر سنكات يعكس إقراراً بأن الرجل تواطأ مع المجلس الأعلى لنظارات البجا في نشر خطاب الكراهية والإقصاء وإثارة الفتن عبر العديد من رموزه، كالأمين السياسي السابق للمجلس “سيد علي أبو آمنة”. كما أن الناظر ترك في مقابلة له بقناة البلد، مؤخراً، صرح بأن محمد طاهر إيلا، أثناء وقائع الفتنة بشرق السودان خلال السنوات الثلاث الماضية، اتصل به من القاهرة وعرض عليه العودة إلى الشرق لمشاركته لهم في نشاط المجلس الأعلى لنظارات البجا (وهو نشاط معروف لكل السودانيين) لكن ترك طلب منه عدم المجيء!
يحلم محمد طاهر إيلا بأن يكون زعيماً سياسياً لكل أهل الشرق، لكن ما فات عنه هو أن نشاط الثورة المضادة وما تورط فيه حراك المجلس الأعلى لنظارات البجا؛ من إثارة للفوضى ونشر لخطاب كراهية وإشاعة للفتن والإقصاء بحق مكون بجاوي آخر بشرق السودان (مكون بني عامر والحباب) بالتواطؤ مع اللجنة الأمنية لولاية البحر الأحمر (خلال عمليات شد الأطراف التي أشرف عليها المكون العسكري في المركز وزعزعة الاستقرار في شرق السودان وغربه طوال السنوات الثلاث الماضية)، ومما ترتب على ذلك إزهاق أرواح بريئة وتهجير وهتك للنسيج الاجتماعي وزعزعة للثقة بين المكونات الأهلية؛ كل تلك المعطيات اليوم تبدد أوهام محمد طاهر إيلا في أي زعامة سياسية للشرق، وتجعل من نشاطه نشاطاً فاشلاً وبلا أي جدوى.
فإذا كانت اليوم ثمة حقيقة للفيديو الذي تحدث فيه إيلا عن محاولاته اليائسة لتوحيد مجلسي البجا، فهي أن الرجل يؤمن بأجندة عنصرية ويعترف بها وهي أجندة مؤتمر سنكات الذي لا يعترف بهوية بجاوية لقبائل بني عامر والحباب (الشق الثاني من مكون الهوية البجاوية في الشرق)، وبذلك يكشف محمد طاهر إيلا عن قناع طالما ظل يخفيه باستمرار حين أوهم نفسه بأنه يمكن أن يكون زعيماً سياسياً لشرق السودان كافة.
اليوم أدرك بعضٌ من أبناء “البداويت”، زيف خطاب المجلس الأعلى لنظارات البجا بشقيه، وجاهروا بالاعتراض عليه وفضحه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكشف الادعاء الكاذب لمصالح البجا في خطاب قياداته الكيزانية، فضلاً عن أن الخلاف ما بين الناظر ترك وبين أمثال سيد أبو آمنة وأوبشار، بعد الذي شاهدناه من تصريحات واتهامات وهمز ولمز وغمز عبر القنوات الفضائية لن يعيد هذا المجلس إلى الوحدة.
لكل هذا يمكن القول، إن مصير جهود إيلا في توحيد مجلسي البجا هو الفشل الحتمي لا محالة. لكن ما هو أسوأ من ذلك؛ هو حال شرق السودان الذي أصبح مختبراً مثالياً لنجاح مشروع الكيزان لتسييس القبائل، بحيث نكاد لا نصدق اليوم أن من بين قيادات المجلس من يتوهم نفسه جزءاً من ثورة ديسمبر المجيدة، فيما هم كانوا قيادات كيزانية معروفة!
ورغم المشكلات الحقيقية لقضايا البجا العادلة في شرق السودان اليوم، إلا أن التصدي لها من خلال قيادات كيزانية مأزومة كقيادات المجلس الأعلى لنظارات البجا، أو توهم شخص مثل محمد طاهر إيلا يريد تعويم نفسه قائداً سياسياً لشرق السودان، فإن أصدق وصف لأمثال هؤلاء هو أنهم شخصيات منفصلة عن الواقع، وبالتالي ستمثل بوصفها ذاك مشروعاً مؤذياً لمصالح البجا في شرق السودان وتكريس أزماته المزمنة!