يعتمد الأدب البوليسي على أسلوب يعرف بـ “من فعلها”. يقدم الكاتب جريمة، وقصة، وعدداً من المتهمين. ثم يلعب على الغموض وإرباك القارئ لاستنتاج المجرم.
أشهر روايات الأدب البوليسي هي ما كتبتها أجاثا كريستي. في هذه نالروايات يتنقّل القارئ بين اتهام زوجة اللورد القتيل، إلى اتهام عشيقته الشقراء اللعوب، ثم اتهام ابنه الأكبر الذي سيرث القصر، ثم اتهام ابنه الصغير المتمرد الذي يحب السكرتيرة. أحياناً نكتشف أن القاتل هو البستاني الذي ليس بستانياً حقيقياً، إنما هو ابن غير شرعي للورد.
في هذا النوع من الأدب لا ضرر من أن تستنج مجرماً في بداية الرواية، ثم يثبت لك بوارو في نهاية القصة أنه بريء.
هذه مجرد شخصيات أدبية لا تتضرر باتهامك وظنك،
بل إن مقصد الأدب البوليسي أصلاً هو تحريضك على التفكير، والاستنتاج، ثم اكتشاف خطأ استنتاجاتك.
إن الرواية البوليسية التي تعرف فيها منذ اللحظة الأولى من هو المجرم هي رواية سيئة.
في الغرب تتعرض شخصيات شهيرة للاتهام في جرائم، لكنها تعيش وفق شروط مختلفة تجعل اتهامها مفيداً لها، مثل لاعب كرة القدم الأمريكية الاسطوري أو جي سيمبسون الذي اتهم بقتل زوجته السابقة وصديقها. تمت تبرئة سيمبسون من التهمة، لكنه لم يتضرر من هذا الاتهام، ومن التغطية الإعلامية، بل زادت هذه التغطية من شعبيته ونجوميته.
بلغ عنف التغطية الإعلامية في قضية او جي سيمبسون أن مشهد مطاردة الشرطة له في الطريق السريع بُثّ على الهواء، وتابعه الملايين.
لكن هذا لا ينطبق على مواطن أمريكي عادي. المواطن العادي ستتدمر حياته تماماً. وإن لم تكن أو جي سيمبسون، فإن اتهام كهذا سيحطمك.
في أوروبا والدول المتقدمة حيث يأكلون مع الكباب طحينة كما قال النجم محمد السني دفع الله في فيلم الإرهاب والكباب، لديهم أيضاً نظام قضائي يسمح لمن يتم اتهامه إعلامياً ظلماً أن يحصل على اعتذار وتعويضات.
عام ١٩٩٦م، اتهمت وسائل الإعلام الأمريكية رتشارد جيويل بتنفيذ تفجيرات دورة الألعاب الأولومبية الصيفية في أتلانتا.
لم يأتِ هذا الاتهام من فراغ. إنما اعتمد على تسريب من الإف بي آي، أن التحقيقات تركز على جيويل كمشتبه به.
لاحقاً، وبعد اكتشاف المجرم الحقيقي، اعتذرت المدعي العام جانيت رينو لجيويل علناً في مؤتمر صحفي. ورفع المتهم البريء قضايا تشهير ضد وسائل إعلام عديدة، مثل إن بي سي نيوز، وسي إن إن، ونيويورك بوست. وحصل جيويل على تسويات مادية كبيرة من الذين اتهموه وشهروا به. شبكة إن بي سي نيوز مثلا دفعت نصف مليون دولار.
لذلك فإن الاستنتاجات المجانية التي تملأ السوشيال ميديا والإعلام بخصوص جريمة بري هي أمر شديد الخطورة.
هذه ليست رواية بوليسية كتبها ارثر كونان دويل. هذه حياة ناس، وسمعتهم. وكتابة جملة عابرة مثل “أنا أشك أن فلان هو القاتل”، هي ليست مجرد 20 حرفاً. هذا تشويه وتهديد لحياة إنسان، ولكل من يرتبط به.
بشاعة الجريمة وغرابتها جلبا اهتماماً كبيراً، لكنها ولّدت لدى كثيرين رغبة في سبر أغوارها على طريقة محققي الجرائم في الروايات. وهذا استخفاف بالغ بسمعة الناس وسلامتهم. أنت لا تتهم ابن اللورد في رواية لأجاثا كريستي. أنت تشوه سمعة إنسان في بلاد لا تموت فيها الاتهامات. ولا عندها ثقافة التقاضي لاسترداد الحقوق. قبل أشهر أطلق سراح صحفية اتهمت مسؤولاً سابقاً بالاعتداء الجنسي على قاصر. لم تقض الصحفية أكثر من بضعة أيام في السجن، وانتهى الأمر بالتصالح والعفو والتجاوز. فنحن من بلاد تنزعج جداً من المحاسبة. بديهي أن كاتب هذه الكلمات لا يؤيد عقوبة السجن في قضايا التشهير، إنما يناصر أن تكون قضايا مدنية تُدفع فيها تعويضات مادية، لكن مشكلتنا أنه لا توجد عقوبة تطبق، سجناً أو تعويضاً.
ولو طارد المتضرر المشنعين، فكيف له أن يصل لكل مستخدم كتب شيئاً مسيئاً. سيظل هناك من يشعرون أنهم آمنون، لأن المتضرر سيتجاهلهم، لذلك تتلبسهم روح هيريكل بوارو ويشرعون في إطلاق الاتهامات.
لا أحد يدري إلى أين ستصل تحقيقات جريمة بري. وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات لم يصدر عن الشرطة أكثر من ذلك البيان المعيب الذي ولّد موجة من الاستنتاجات والاتهامات. لكن أياً كانت نتيجة التحقيقات، ومهما ظهر أنه المتهم، فإن عجلة الاتهام على السوشيال ميديا وفي وسائل الإعلام هي خفة مؤذية. وأن تنشر صحيفة مهمة تقريراً لصحفي كبير يعتمد على مصادر مجهولة بالكامل لتوجه الاتهام إلى شخص معين فهذا أمر لا يليق بالمهنية.
لا يعقل أن تكون شهوة “التريند” سبباً في إيذاء الناس.
ربما من الأفضل الاهتمام بقراءة روايات أجاثا كريستي، فهي توفر بديلاً آمناً للاستنتاج وتوجيه الاتهامات، بدلاً عن محاولة لعب دور المحقق البوليسي بسمعة المواطنين وسلامتهم.