رأي

صفقة زين – دال و انعكاساتها على بيئة الأعمال والسياسة

عمار قاسم حمودة

الآن وبعد أن أصدرت شركة زين الكويتية قبل فترة، أمرا تنفيذيا بالتراجع عن رغبتها في بيع فرعها في السودان، والذي أنهى عملية الفحص النافي للجهالة، الآن يمكننا  التعليق بحرية عن العملية وملابساتها وانعكاس ذلك على بيئة الأعمال والسياسة في السودان.

١- استراتيجيا: للاتصالات بُعد يتجاوز التجارة والأعمال، ويصل إلى الأمن القومي، خاصة إذا أضفنا لذلك عدم وجود شبكات حديثة خاصة بالجانب العسكري والأمني. ولذلك فإن التقييم المالي والتجاري يأتي في المرتبة دون الاستراتيجية في تناول الأمر في الجانب العام.

وفي هذا السياق جاء تخوف الكثيرون من الصفقة باعتبارها هدفا أمنيا قبل الهدف التجاري.

العامل الحاسم في أهمية الاتصالات ونجاعتها في أي بلد، هو مدى تقدم الدولة في ما يعرف بالتحول الرقمي Digital Transformation، وإلا فإن دور الاتصالات سيكون محدودا جدا في غياب تحققه، أي غياب التقدم في التحول الرقمي في أي بلد. ففي بيئات التحول الرقمي تصبح الحاجة إلى خدمة البيانات بمثابة الحاجة إلى الماء والبنية التحتية للأعمال وأدائها بيسر وكونها معتمدة رسميا من الدولة وبالطبع من الفاعلين في مجال الأعمال والخدمات خصوصا في جانبها المصرفي والتجاري. فخدمات البيع عبر الانترنت وإنجاز المعاملات الرسمية أمر حيوي. عليه فالتحول الرقمي – وما يشمله من مجالات الحكومة الإلكترونية والتكاملات مع الجهاز المصرفي – يمثل أهم مؤشر مستقبلي لتقييم ربحية شركات الاتصالات في دولة ما. ومن نافلة القول هنا الحديث عن تكامل خدمتي الاتصالات والمصارف بما يتيح بيئة أعمال تصلح للمستقبل من ناحية تجارية، ومن ناحية ضبط ضرائب الأعمال التجارية بصورة تخدم عدالة الأسواق.
٢- تجاريا: العدو الأول في طريق الازدهار التجاري لعموم البلد هو الاحتكار أو الهيمنة، أي غياب التنافس الذي يكون في صالح العرض الأفضل، وخصوصا إذا تعددت أنواع الأنشطة المحتكرة لشركة ما، أو مجموعة شركات تضمها شركة مالكة، أو قابضة، واحدة Holding Company . فحالة مقدم العرض (شركة دال) ليست إيجابية في موضوع الاحتكار إطلاقا، فوجود سابقة احتكار (أو حكر) الدقيق عليها (أو الحصة الأكبر لها) تقدم ظلالا من الشك في أسباب نجاح الشركة ككل في الفترة السابقة، والعلاقات الوثيقة برموز النظام المباد والتعامل الطويل لأجهزة الدولة مع شركات دال حتى في السلع الاستراتيجية والمركبات. للدقة، شركة دال لم تكن في وضع احتكار مائة بالمائة monopoly، بل وضعها أقرب إلى دور الشركة المهيمنة في نظام شبه الاحتكار Oligopoly ، والذي تكون فيه شركات قليلة هي التي تحتكر السوق.

ربما قال قائل إن شركة دال هنا هي فقط تمثل (مكونا محليا) أو وكيلا محليا لصاحب رأس المال الحقيقي. وهذه الفكرة أو النظرية معروفة في أنواع وأشكال الاستثمارات الأجنبية. صيغة وجود مكون أجنبي ومكون محلي هي مؤشر كبير لعدم الاستقرار الاستثماري، بل وربما لعدم الاستقرار بصورة عامة. ولذلك ودرءا لمخاطر محتملة كبيرة، فإن المستثمر الخارجي يفضل أن يعهد لمكون محلي بتجاوز المخاطر نسبة لوجوده المسبق في السوق المعني ونسبة لكونه شركة سودانية، ويتفق معها على صيغة تكافئ تحملها للمخاطر المحتملة.

لا نقول بأن مقدم العطاء المحلي هنا هو بمثابة سمسار، ولكن هنا يمثل الشريك الأصغر، وغير المتحكم في سياسات وعمل الشركة.

 كنا سنتحدث أكثر عن فوائد وتكلفة عمليات الاندماج اوالاستحواذ ( Mergers and/or Acquisitions ) إذا لم يأتِ قرار زين بالتراجع عن العملية. ولكن بصورة عامة فإن أي انفصال من زين السودان عن مجموعة زين مع عدم انضمامها إلى مجموعة اتصالات إقليمية فإن ذلك يمثل خسارة استراتيجية للميزة التفضيلية لكونها عضو مجموعة اتصالات إقليمية  والتي من بعض مزاياها الحصول على المعدات والبرامج بتكلفة أقل، فضلا عن التعاون الإقليمي في مجالات مهمة مثل الإنترنت والاتصال البيني interconnection، وبالطبع ستفقد ميزة التبادل المعرفي في الموارد البشرية وكذلك التأثير التجاري للقوائم المالية. بالمقابل فإن شركة دال لا يمكن أن تكون ذات فائدة لشركة زين في مجال الاتصالات، وربما كانت هناك تكلفة إضافية ضرورية لصعود منحنى التعلم في إدارة شركة اتصالات بجانب شركاتها الأخرى. وما ستجنيه دال في حالة الاستحواذ هو مزيد من التحكم في كتلة النقد المتداول (كاش أو عبر حركة الأموال في النظام المصرفي)، مما يعطيها تحكما أعلى في السوق السوداني. ولكن بإمعان النظر أكثر فهذه الميزة تمثل أمرا سالبا على المستوى العام، وذلك لأنها تصب في اتجاه الاحتكار الضار بالأسواق، بل ويجب على المشرع أو المنظم لعمل الشركات أن يتصدى له بصورة واضحة.

٣- الناحية المالية للصفقة والتقييم المالي أو التسعير: مجال الاتصالات عموما ليس هو المجال العالي الأرباح، ببساطة لأن الاتصالات وفي بيئة فيها وجود منافسين، فهي شركات خدمات وليست شركات إنتاج، فهي شركات مساعدة لشركات الإنتاج. بصورة عامة شركة الاتصالات التي تسترجع قيمة شرائها في عشر سنوات تكون في عداد الشركات الرابحة. عند الحسابات المالية فإن حساب رأس المال يتم بطريقة تفترض أن رأس المال يتم اقتراضه من مؤسسات التمويل، على أن يدفع في شكل أقساط تشمل المديونية وتكاليف التمويل معا. عليه وبافتراضات بسيطة – مع التحفظ على وضع السودان الحالي من ناحية الاستثمار والمخاطر – فإذا افترضنا نسبة تمويل 10% غير مركب ولمدة عشر سنوات فإن ذلك يعني مضاعفة رأس المال وجدولة إرجاعه في عشر سنوات، أي أنه إذا كانت تكلفة الشراء هي 1.3 مليار دولار، فإن إرجاع التمويل يكون لمبلغ 2.6 مليار خلال عشر سنوات، أي أن مبلغ 260 مليون دولار كل عام تذهب لسداد الدين. فهل تحقق زين صافي أرباح يتجاوز أو يقارب هذا الرقم؟ لنلقِ نظرة على أرباح زين في السنوات الماضية ونستعرض فرصها المستقبلية.

حققت زين السودان أرباحا مضطردة في السنوات السابقة مستفيدة من تحرير سعر الدولار من بنك السودان، ومستفيدة من أجواء الانفتاح على الخارج الذي تزامن مع حكومة الثورة لما تبنته من توجهات إيجابية تجاه المجتمع الدولي، سياسيا وتجاريا. وكانت الفرصة الأكبر لها عندما أقدمت على رفع أسعار الخدمات إلى مستويات قياسية على مراحل، تعدت في جملتها الـ 300%. وهنا لا بد أن نقول بأسف، إن زيادة أسعار الخدمات لم تكن بنفس النسبة في زيادة رواتب الموظفين والعاملين!!

كل الزيادات التي ذكرت استطاعت أن ترفع أرباح زين السودان السنوية من مبالغ لا تتعدى السبعين مليون دولار سنويا إلى تجاوز حاجز المائتي (200) مليون دولار سنويا في السنتين الأخيرتين وجعلها تخرج من حالة التشاؤم التجاري الذي مكثت فيه ردحا من الزمن.
الأرباح التي تظهرها قوائم زين السودان المالية لا تؤهلها ليكون السعر المطروح لها فوق المليار دولار. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الشركات يجب أن تستثمر في أصولها باستمرار (الأصول تشمل الموارد البشرية) والتحسين المستمر في الخدمة للبقاء في درجة منافسة معقولة مع بقية المنافسين. هذا الأمر يتم بإعادة استثمار نسبة من الأرباح السنوية في أصول الشركة. هذه النسبة اذا فقط اعطيناها 10% فإن المتبقي من الأرباح السنوية يجعل قيمة الشركة في حدود الـ 900 مليون دولار (لا تنسى تكاليف التمويل).

لزين السودان عدة نقاط قوية تجاريا في السوق السوداني، ولكنها تتقلب تقلب الحال السياسي بالسودان، ولذلك تجد من يتفاءل فيقدم سعرا لا يمكن أن يتوقعه المتشائم. نقول هذا بعيدا عن وجود نوايا سياسية وأمنية أو عدم وجودها، فالحساب هناك يتجاوز التجارة كما ذكرنا.

٤- الجانب السياسي: زين شركة تجاربة ومن أراد أن يرى كيف تتحول الشركات التجارية (كمؤسسات) لتتماشى مع الوضع القائم سياسيا فلينظر إلى قمة هرمهما الإداري مع كل حقبة، من كان يمثلها في أيام المخلوع؟ من كان يمثلها بعد انتصار الثورة؟ من كان يمثلها في عهد التكنوقراط؟ كيف هي الآن تدار؟ إذا استعرضت الأسماء، فذلك فقط يكفي. قديما عندما جاء الرئيس التنفيذي لزين للسودان وقد التقى برأس النظام وقتها، فماذا طلب؟ لقد طالب بـ (سياسة واضحة). وذلك يعني أن الرجل كان يعاني تجاريا من منافسة جهات تعمل بطريقة غير واضحة (أي مستندة إلى سلطة مخفية)، وأنه كتاجر (شاطر) يأنس في نفسه الكفاءة في الكسب إذا توفرت بيئة منافسة واضحة.

زيارة الخرافي في الفترة القصيرة الماضية تأتي في توقيت ممتاز من ناحية الرياح السياسية لأسباب تتعلق بقطاع الاتصالات وارتباطه بالأمن القومي بما يصل إلى حدود إمكانية (التجسس)، وما برامج (بيقاسوس) و(الوحش) ببعيدة عن الساحة اليوم، وتكاد تكون من الهواجس الثابتة لكل من يتحدث عن التجسس والمراقبة والتتبع وغيرها من أمور الرصد غير المحسوس.

زيارة الخرافي تأتي بعد إبعاد شبح بيع زين لمكون محلي له ارتباطات محسوبة سياسيا لصالح مجموعة غير التي تسيطر على الأمور استخباراتيا، مما يعني أن الانسحاب من عرض البيع جعلها ترتاح للقرار، ويمكن أن يكون بإيعاز لتذليل صعاب كانت هي منشأ التفكير في عملية البيع. وفي ذلك كثير من الأدوات مثل تسهيل تحويلات الأرباح، وعلاج موضوع سعر الصرف الحقيقي والاسمي (من بنك السودان)، ومزاولة انشطة تجارية عبر شركات تحت زين السودان، الأمر الذي كان موقوفا في زمن سابق تبعا لمحدودية تصديق العمل الأساسي وحصره في مزاولة عمل الاتصالات فقط وما يستلزمها بعيدا عن ما عداها من أنشطة تجارية مثل الوارد والصادر وسوق العقار.
ما يجعل شركات الاتصالات ذات مستقبل تجاري مزدهر هو مدى تقدم جهاز الدولة والجهاز المصرفي وبيئة البزنس ومدى تقدمها في ما يعرف بـ (التحول الرقمي) كما أسلفنا. وهذا يخص الدولة بصورة كبيرة. فإذا كان هناك تقدم كبير في برامج التحول الرقمي، فإن النشاط التجاري المستقبلي لقطاع الاتصالات سيكون في انتعاش أو على الأقل في خط بياني متصاعد. حال التحول الرقمي في السودان لا يسر، والتقدم في هذا المجال مرتبط بكثير من المطلوبات الابتدائية. ومن الجيد لشركات الاتصالات أن تساعد الحكومات في تسريع هذه العملية لأنها ستستفيد في نهاية المطاف استفادة كبيرة جدا. النقلة التي يتوقع جني ثمارها من تسريع التحول الرقمي هي بصورة أساسية في جانب خدمات البيانات لأصحاب الأعمال وللأفراد، ولذلك رأينا نماذج عديدة في إعادة تسعير خدمة البيانات وجودتها والتنافس فيها من باب الجودة وليس فقط جانب الانتشار. ونظرا للعديد من العقبات في توصيلات الفايبر إلى المنازل وأماكن العمل فإن حلول الجيل الرابع (وربما الخامس في مقبل السنتين المقبلتين) ربما يمثل الحل الذي يقفز فوق تعقيداا التوصيل الأرضي للفايبر.

٥- نقطة أخيرة، لعلها بعيدة عن موضوع الصفقة التي لم تكتمل، ولكنها في ما يخص مجال الاتصالات، وهي عن التمايز أو عدم التساوي في المسموح به في التراخيص الممنوحة لشركات الاتصالات. فمثلا تتمتع شركة سوداتل برخصة تشمل كل المجالات من موبايل وثابت وفايبر ومخارج دولية بل وتعدي على الخارطة الترقيمية للهاتف السيار والثابت، بينما نجد كنار مثلا لا تتمتع برخصة الموبايل، زين ليس لديها رخصة ثابت وكذلك إم تي إن.

 هناك جدوى اقتصادية في وضع جميع الشركات على نفس نقطة التنافس بتوحيد الرخص. وهذا بدون شك في صالح المنافسة وفي صالح المستهلك بنهاية المطاف.

*مهندس اتصالات

ammarhamoda@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى