منذ الساعات الأولى لصباح الجمعة 30 يونيو 1989 بدأت تجربة السودانيين مع مقار التعذيب الأمنية.
كانت أغلب هذه المقار أماكن غير رسمية، بيوتاً مستأجرة، أو منزوعةً من أصحابها. بعضها في أماكن طرفية، وبعضها في قلب الأحياء السكنية.
لم تكن مجرد أماكن احتجاز، بل كانت سلخانات بشرية يتم فيها تعذيب المعتقلين بشكل يومي.
أطلق السودانيون عليها اسم “بيوت الأشباح”، وتذكروا تجارب التعذيب قريبة العهد في زمن نميري الذي لم تمر 5 سنوات على سقوط حكمه.
كانت تلك أبشع عملية انتهاك كرامة لشعب كامل. التعذيب بلا هدف محدد إلا كسر النفس والإذلال. لم يكن مطلوباً من المعتقلين في أغلب الحالات الاعتراف بشيء ما، ولم تكن لأغلبهم تهمٌ جنائية. هم فقط مصنفون في خانة “أعداء الثورة”. وُضعت أسماؤهم في قوائم الاعتقال، لأن حظهم العاثر وضعهم في يوم ما في طريق أحد أعضاء الحركة الإسلامية. لو كنت شيوعياً أو قومياً، فمكانك محجوز سلفاً في هذه البيوت القميئة؛ ثم تمدد القمع ليدخل هذه المعتقلات الوحشية كل من نطق بكلمة أو اظهر تبرماً بالحكم. أعرف أحد أبناء مدينة بحري اعتقل لأسابيع لأنه غضب، إذ ذهب إلى اللجنة الشعبية لصرف التموين فلم يجده، فشوّح بيده، وقال: “هي بلد حاكما الترابي، بتنفع؟”. ليلاً توقف البوكس الشهير أمام منزله، وحملوه إلى أحد بيوت الأشباح، وتعرّض للضرب والإهانة لأسابيع، قبل أن يطلقوا سراحه.
أساتذة جامعيون تعرضوا للتعذيب في هذه السلخانات على يد تلامذتهم. طلاب جامعيون ماتوا تحت التعذيب في هذه البيوت، وقبل لأهلهم أن الملاريا هي من قتلتهم. نقابيون غرست في رؤوسهم المسامير حتى الموت.
قصص وتفاصيل وشهادات موثقة ومعروفة. ولا أحسب سودانياً، موالياً أو معارضاً، لم يعرف بشكل شخصي أحد ضحايا تلك المقار الجهنمية. بل إن عدداً من الذين غادروا جناح البشير إلى جناح الترابي من الإسلاميين عقب المفاصلة نزلوا ضيوفاً على بيوت الأشباح، وجلدهم رفاق الأمس بالسيطان، وقلعوا أظافرهم، وركلوهم وبصقوا عليهم؛ ولم يشفع لهم أنهم أبناء الحركة الإسلامية، ولا أنهم من المساهمين في انقلاب 1989م.
كانت تلك البيوت رعب السودانيين في سنوات حكم الإسلاميين. يبيت كل شخص وهو لا يعرف متى ولأي سبب قد يقف بوكس جهاز الأمن ببابه ليلاً ليأخذوه إلى بيوت الأشباح. لم يكن من الضروري أن تكون معارضاً فاعلاً، يكفي كلمة تفلت منك، نظرة ساخطة، وشاية من كادر إسلامي، تشابه أسماء، معرفة عابرة بشخص مطلوب. أي شيء تفعله أو لا تفعله كان يمكن أن يذهب بك إلى بيوت الأشباح. بهذا الرعب والترهيب أسست الحركة الإسلامية حكمها.
أنكر عدد من قيادات الاسلاميين وجود مقار للتعذيب. وقال علي عثمان محمد طه نفياً مضحكاً جداً، قال: نحن مسلمون، والإسلام حرّم تعذيب الحيوانات؛ فكيف نعذب البشر؟
تخيل لصاً في المحكمة يقول للقاضي: أنا مسلم، والإسلام حرّم السرقة، فكيف أسرق؟
لكن رغم تكرار نفي قيادات الحركة الإسلامية، إلا أننا نعرف ما فعلوا. والآلاف الذين انتهكت إنسانيتهم في بيوت الأشباح يحفظون ما فعلوا بهم، وآلاف الأسر التي فقدت بنيها بالملاريا في بيوت الأشباح يذكرون ما فعلوا بأبنائهم.
نحن لم ننس.
وستأتي لحظة الحساب.
أستلف هنا تعبيراً رائعاً من الصديق الروائي أحمد سمير من مقال قديم، وأقول:
هذا ليس تهديدا. هذا وعد.