رأي

البندر فوانيسو البِوقدن ماتن 

محمد الفكي سليمان 

يترقب السودانيون جميعهم مجريات التفاوض بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع تسكنهم أشواقٌ عِظام بوقف إطلاق النار ، وفتح ممراتٍ إنسانية تسمح لهم بالعودة إلى منازلهم واستئناف حياةٍ شاقة روضوا أنفسهم عليها غير راضين بها .

عرف السودانيون الحرب مبكراً قبل إستقلال بلادهم بشهورٍ عدة وظلت الحرب الأهلية تشتد وتخبو نتيجة معالجاتٍ قصيرة الأمد أطولها إتفاقية أديس أبابا سنة 1972 ، والتي جعلت جنوب السودان يعيش في أمان نسبي لفترة تجاوزت العقد من الزمان ، قبل أن تتجدد بصورة أكثر ضراوة في سنة 1983 مع إعلان الحركة الشعبية لتحرير السودان قتالها ضد الحكومة المركزية في الخرطوم .

جاءت الحركة الشعبية بخطابٍ سياسي جديد يتحدث عن المظالم التأريخية وهو الأمر الذي نقل الحرب إلى أقاليم ٍ لم تعرف الحروب من قبل في جبال النوبة والنيل الأزرق ، قبل توقيع اتفاقية السلام السودانية الشاملة سنة 2005 بعامين انفجر الصراع في إقليم دارفور وأخذت الحرب فيه تأخذ طابعاً الحرب المنظمة في إقليم ٍ عاش اضطرابات أمنية فترة  من الزمن نتيجة تدفق السلاح من حروب دولٍ مجاورة .

حرب 15 أبريل 2023 جاءت مختلفة وهي تتويجٌ لهذا الإرث الدموي الطويل من هدناتٍ قصيرة واتفاقيات جزئية هدفت لإسكات صوت البندقية مع الحفاظ على التوزانات السياسية بينما رائحة الموت عالقة في الجو ، والبلاد إما في حالة حرب أو استعدادٍ لها .

الحروب الطويلة جعلت المؤسسة العسكرية والغةً في السياسة اليومية وأعطتها خطاباً جعلها صاحب أحقية في طلب السلطة فتنامت الانقلابات العسكرية ، تنافست واستثمرت عدد من الأحزاب السياسية داخل المؤسسة العسكرية بوصفها الرافعة الأكثر سرعةً و أمضى عزيمة في الوصول إلى السلطة ، خلق هذا التنافس صراعاتٍ دموية يؤرخ لها في التاريخ السياسي الحديث مثل ( مجزرة بيت الضيافة ) .

في المقابل دمرت الحروب الطويلة فرص القوى الديمقراطية في مؤسسات حزبية قوية ومجتمع مدني معافى حيث كانت خطابات التعبئة هي السائدة وسُخر الوطن بأكمله كخطوط إمدادٍ خلفية في معركة أبدية ، ما أن تخبو حتى يتجدد أوراها ، وأصبح التسابق إلى السلطة عبر البندقية وليس صندوق الاقتراع حتى قالها الرئيس المعزول ” عمر البشير ” صراحة في خطاب شهير : ( السلطة دي وصلناها بالبندقية والعايزها يجينا بالبندقية ) ، ولم يكن حديثه خطاباً عابراً وإنما مَثل عقلية نظام حكم البلاد بالحديد والنار طِوال ثلاثة عقود ومثلت البندقية محددات شرعية مع  إجراء تسوياتٍ شكلية تضيف عدد من الساسة كموظفين يحتفظون بمواقعهم بعض الوقت ريثما يتم استبدالهم بآخرين دون أن يتمكن أحدهم من الوصول إلى نخاع النظام الحاكم الكامن بعيداً في الدوائر الأمنية .

في ذات الإطار أشرك البشير عدداً من حملةِ السلاح وفقاً لأوزانهم وكان التكتيك المتبع الإحتفاظ بهم حتى يفقدوا بندقيتهم وتعمل الأجهزة الأمنية على إحداث تصدعاتٍ داخلية في أجسامهم ثم يتم لفظهم لأنهم فقدوا الشرعية الوحيدة التي يؤمن بها حزب البشير الحاكم .

الحروب المستمرة أيضاً غيرت بنية الخرطوم فتحولت من عاصمةٍ صغيرة يعيش فيها أقل من مليون شخص من الرأسمالية الصناعية والتجارية وجهاز الدولة البيروقراطي من كبار ” الأفندية” الذين يديرون قُطراً شاسعاً إلى مدينة يحج إليها الملايين من أبناء السودان بحثاً عن الأمان ولقمة العيش وحياة أفضل حيث حطمت الحروب الطويلة التي اندلعت من أجل تحسين حياة المواطنين في الأرياف البعيدة المرافق القليلة وأصبحت هجرة المهنيين والطبقة الوسطى والمجموعات المناط بها تطوير الريف إلى الخرطوم طقساً ثابتاً طِوال العقود الثلاثة الماضية .

وبفضل هذه الهجرات تورمت الخرطوم وأصبحت ” المدينة الدولة ” بها مركز المال والأعمال وكشفت الحرب الأخيرة عن اختلالاتٍ مفزعة في أرقام المصانع الموجودة في الخرطوم مقارنة بالقائمة فعلاً بمناطق الإنتاج حيث تقول حسابات المنطق التي تقوم على تكاليف الإنتاج والربح والخسارة أنها يجب أن تكون في مناطق انتاج المواد الخام لكن انعدام الأمن ، الطاقة ، الأيدي العاملة الماهرة الماكثة قرب معاهد التدريب التي تتركز في العاصمة ، جعلت أصحاب المصانع ملزمين بتشييدها في المركز  الخرطوم ، الأمر الذي يجب مراجعته مع مئات القضايا حتى نستعيد توازن السودان الدولة .

أيضاً تحولت الخرطوم من مدينةٍ متجانسة تسكنها مجموعات قليلة ولديها نمط حياة محدد شبيه بالعواصم الاستعمارية إلى مدينة مختلطة بالفارين من أقدارهم وتناسي الحكومة لهم في أطراف البلاد البعيدة ، وقد عَرف أكاديمي هذه الرحلة بــــــ ” التصويت بالأقدام ” وأصبح الصراع اليومي على أرضها بين سكانها القدامى والوافدين الجدد على الخدمات الشحيحة واستفاد السكان القدامى من ميزة تَملك الأراضي التي بلغت أسعارها أرقام غير مسبوقة ، فسارع النظام الحاكم – نظام الإسلاميين – إلى أخذ نصيبه من الكعكة عبر عمليات فساد ممنهجة بإعادة تخصيص الأراضي مع إعطاء منسوبيه مواقع مميزة فنشأت ” غيتوهات ” تضم أبرز عناصر السلطة المتنفذة .

راكمت مجموعة الطبقى الوسطى التجارية وكِبار المهنيين ثروات صغيرة بكفاحٍ منقطع النظير في رحلة شاقة وفق اشتراطات غير مألوفة بالنسبة لهم مقارنة بحياة الأقاليم الهادئة الموسومة بالدفء والعلاقات الاجتماعية وإضافة لهذه المجموعات اختارت فئة المغتربين الانحياز إلى خيار العاصمة بدلاً من العودة إلى أقاليمهم البعيدة ففقدت الأقاليم مورداً اخر يعزز فرصها في التنمية والنهوض ولم يكن اختيار المغتربين للعاصمة نابع عن فراغ وإنما نتيجة السياسات الحكومية التي ركزت الحياة والخدمات في عاصمة البلاد حيث توجد المؤسسات العلاجية الخاصة والمدارس المتميزة لذلك نجد أن السوداني يقضي ربع قرن من الزمان في المهجر من أجل الحصول على 400 متر في عاصمة بلاده بينما أكثر من مائة مليون فدان ، بكر لم تطأها أقدام إنسان .

حرب الخرطوم دمرت هذه المعادلة بين يوم وليلة وتبخر كفاح السودانيين الطويل الذين حجوا إليها  بحثاً عن أمان ، فقُتلوا ونُهبت أموالهم تحت تهديد السلاح وعاد الملايين إلى مناطقهم في حالة ذهول كاملة بعد أن دمر الجيش الصراع الوحشي مدينة بُنيت بجهدٍ خلال سنوات طويلة .

الدروس المستخلصة من هذا الحدث المزلزل هو ضرورة اتباع سياسات لانعاش أقاليم السودان الشاسعة عبر آلية التعويض الحكومية المقبلة وإعطاء الأولوية في التعويض للراغبين في إعادة إعمار أوطانهم الصغيرة واستثمار جزء مقدر من أموال إعادة الإعمار لتقديم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم بوصفها الخدمات المرجحة بصورة ثابتة لقرارات الأسر في هجر مناطق سكناهم بحثا عن حياة افضل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى