ما هو معلوم بضرورة الواقع وحتميات معطياته في علم السياسة والعلاقات الدولية، أن السياسة الخارجية للدول تكون أقرب للرشاد ورعاية مصالح الشعوب في ظل الأنظمة الوطنية الديمقراطية التي تأتي نتاجاً لعمليات التمثيل الحقيقية، وتعبر عن الإرادة الحرة للشعوب في اختيار قيادتها السياسية والبرامج العملية التي يرونها تخاطب مصالحهم ووترعاها بوسائل مناسبة، وتحقق المصلحة الوطنية العليا بأقصر الطرق وأقلها كلفة، وفيما عدا ذلك يكون بالضرورة هو الإستثناء وليس القاعدة.
السياسة الخارجية من عدة أوجه هي انعكاس للسياسة الداخلية، وفي ظل الأنظمة الشمولية بطبيعة الحال، يكون الهدف الأوحد لمجمل العملية السياسية هو تثبيت دعائم سلطة الإستبداد وتمكينها من رقاب الناس وثروات ومقدرات البلاد لمصلحة العصبة الحاكمة والمجموعات والأفراد الذين يدورون في فلكها، وتتحول الدبلوماسية تبعاً لذلك من كونها أداة السياسة الخارجية الفعالة في تحقيق الأهداف الوطنية إلى سكرتارية باهتة للسلطة، مهمتها الأساسية إطلاق حملة العلاقات العامة لتجميل النظام وإزالة الدمامل والبثور من وجهه القبيح. وأما الدبلوماسية الرشيدة كما عرفها أحد نجومها اللوامع في مؤتمر السفراء الأول عام 1972 دكتور منصور خالد عليه رحمة الله ” هي التي تنبني على القدرات الحقيقية (لا المتوهمة) والتقييم الأمين للقدرات الكامنة والحقيقية للدول الأخرى التي تتفاعل أو قد تتصادم معها”.
أتت بمعالي سفيرنا الهمام السيد/ الحارث إدريس ثورة ديسمبر المجيدة من قائمة المفصولين للصالح العام في عهد الإنقاذ الزنيم، مع آخرين، غير أنهم غلبوا المصلحة الفردية على المصلحة الوطنية، وقلبوا للثورة ظهر المجن، وهي التي أخرجتهم من أحشاء الظلم والظلمات، فبادلوها إحسانها بالجحود والنكران، وهذا فعل شائن ومستقبح لا يقدم عليه إلا الذين اعتلت ضمائرهم الوطنية وافتقدوا البوصلة الأخلاقية التي لا تقود إلا إلى الإتجاه الصحيح. وقد مضى الحارث في مسار الضلال الأثيم بخطوات واثقة وحثيثة اتخذ فيها الكذب الصريح شرعة ومنهاجاً، حين أنكر انقلاب 25 اكتوبر 2021 جملة وتفصيلاً في مؤتمر صحفي بالامم المتحدة ، وتلك لعمري وقاحة لم يجرؤ عليها حتى قادة الإنقلاب أنفسهم إذ سماها بعضهم إجراءات تصحيحية وسماها آخرون منهم دون مواربة بالانقلاب، ألقى الحارث كذبته تلك، في ذات الليلة التي قدم في مسرحها رقصة الهياج في المحفل الدبلوماسي الأهم في العالم، وخالف الأعراف الدبلوماسية في أدب الخطاب وطفق يشير بكلتا يديه، كأنه يؤدي دوراً درامياً في مسرح مدرسي وهو يمن على الآخرين بما لم يفعله أصلاً، وإن فعل فقد فعله أجيراً أخذ نظير خدمته من الأجر مثله مثل غيره حيث لا مجال للمنة بعد ذلك، عندما تأخذ مقابل العطاء. قدم الحارث فاصلاً درامياً مدهشاً تزلفاً لسلطة الاستبداد في خضم سباق رقصة الهياج المحمومة التي أفرزتها حرب العبث التي سموها حرب كرامة زوراً وبهتاناً وهي ليست من الكرامة في شيء، حيث نتجت عنها أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم اليوم، وأرقام مفزعة هزت كل صاحب ضمير حي، إلا الحارث وزمرته في بعثة نيويورك وبقية سفراء الانقلاب في مختلف عواصم الدنيا، وأذاقت السودانيين ذلاً وصغاراً لم يشهدوا له نظيراً في تاريخهم.
وفي أتون تلك المحرقة التي زج بنا في أتونها الجنرالات، اختار الحارث أن يرقص على جثث ومصالح شعبه في انتفاخته التي وصفها الشاعرالأندلسي ابن شرف حين قال ” كالهر يحكي انتفاحا صولة الأسد” مقامراً بوضع ما يقرب من المائتي ألف من السودانيين المفترض أنهم من رعاياه، فهؤلاء وبقية السودانيين لا وزن لهم في حساب الحارث وعصبته، فالمقام مقام منافسة بينه وبين آخرين، أيهم أكثر تسبيحاً بحمد الحرب والخراب وأيهم أكثر شعبوية وقرباً إلى جوقة نافخي الكير وفؤاد الحاكم بأمره، خاصة وأن الحاكم الخيدع معروف عنه أن يبيت على حال ويصبح على حال، ولعل ليلة المحادثة الهاتفية نام الحارث فيها نومة نواطير مصر فغافله ثعلبها بالخضوع للأمر الواقع الذي لا محيص عنه باختلاق المعارك الموازية مع الآخرين، فالحرب صنعة أياديهم الآثمة وحلها يقتضي الرضوخ للواقع الذي تخلق بموجبها لا في التصرفات الصبيانية الإنفعالية، والإحتكام لصوت العقل والجنوح للسلم، خصوصاً في ظل مجاعة كارثية تلوح في الأفق، وأوضاع مزرية للعالقين في مرمى النيران واللاجئين والنازحين والمرضى والنساء والأطفال الذين يدخلون إلى عامهم الثاني بدون دراسة وينتظرون المجهول.
لا يفوتني أن اهتبل هذه السانحة، وأسوق التهنئة الحارة لمعالي السفير “حارسنا وفارسنا” الهمام على الجائزة الكبرى التي نالها بعد أدائه البديع للفصل الدرامي في مجلس الأمن، وهي تعليق صورته على لافتة كبيرة وزاهية الألوان، علقت جنباً إلى جنب صورة ندى القلعة والشخصية الشبحية صاحبة الظاهرة الصوتية المسيئة للسودانيين والشعوب الصديقة والذي للعجب لا صورة لوجهه، وصورته الافتراضية تدل على شبحية شخصه، وصوراً أخرى لبعض ضباط الإنسحاب التكتيكي العظام، وكذلك التقريظ والمدح الذي ناله معالي السفير من الغوغاء والسفلة والحكامات الذين ينفخون في كير الحرب الملعونة ويزكون أوار نيرانها التي يصطلي بها الأبرياء الذين يزعم تمثيلهم معالي السفير.
لقد أريد لهذه الحرب أن تجٌب ما قبلها من التاريخ الباسل والنضالات الشريفة للأمة السودانية في سعيها الدؤوب نحو الحرية والكرامة والعدالة والسلام، يريدون أن يصفروا عداد الجرائم السابقة ليفتحوا صفحة أكثر سواداً ودموية مما قبلها، ولكن بٌعداً لهم وسحقا، فمسار التاريخ لا يغيره المجرمون وحارقوا الأبخرة من حولهم وإن تكاثروا، وإن جذوة النضال من أجل والحرية والحياة الكريمة لن تنطفيء بتساقط أمثال الحارث في وعر المسير وستبقى متقدة إلى أن تبلغ غاياتها الشريفة والسامية وتنتصر الأمة السودانية لإرادتها الوطنية.
يقطر قلب المرء أسى وحسرة وهو يكتب عن سوء تمثيل الدبلوماسية السودانية التي كانت في عهود مختلفة مثالاً للدقة والاتزان وحسن التقدير، وقد أسهم العديد من منسوبيها في تأسيس مؤسسات دبلوماسية محترمة في افريقيا والوطن العربي، فرفدوا الأشقاء والأصدقاء بالخبرات والتدريب والمعارف، وقدموا خدمات جليلة لوطنهم ولقضايا التحرر في القارة الافريقية والقضايا العربية، نقول ذلك لوجه الحقيقة والتاريخ وليس للمنة والاستعراض، حتى يعلم السودانيون كيف كانوا وكيف يجب أن يكونوا، وأن هذه الحالة الأسيفة والدرك السحيق الذي نهوى فيه سيطويه التاريخ ويصبح نسياً منسيا، فصحائف المجد تكتب بمداد الإنجاز والإنحياز لمصالح الناس وإرادتهم، وأننا سننهض من ركام هذه الحرب أمة ظافرة ومسالمة ومتصالحة مع نفسها والآخرين.
#انتقال #intigal