عباس محمد
منذ بداية الأزمة السودانية الحالية، انخرطت معظم الأطراف السياسية والفكرية السودانية في حالة من التجاذب الشديد. وبرز الدكتور معتصم الأقرع كواحد من الأصوات الأكاديمية التي أظهرت معارضة واضحة لسياسات القوى المدنية، وخصوصاً تلك المتعلقة بتحالف قوى الحرية والتغيير. وعقب انسحاب الحزب الشيوعي من هذا التحالف، اتخذ الأقرع موقفاً مناوئاً، إذ بدأ في مهاجمة معظم خطوات القوى المدنية، مدعياً أن نقده ينطلق من أسس علمية وأكاديمية تهدف إلى قراءة المشهد بموضوعية.
ورغم هذا الادعاء، فإن مواقف الأقرع تبدو متناقضة أحياناً. فقد ظهر بصورة لافتة للنظر في تحليله للحرب المندلعة بين الجيش وقوات الدعم السريع، متخذاً موقفاً قريباً من أطروحات الإسلاميين، حيث اعتبر تنسيقية القوى المدنية “تقدم” بمثابة الذراع السياسي لقوات الدعم السريع. ووصف مواقف “تقدم” الداعية لحماية المدنيين بأنها محاولات لمناصرة الدعم السريع، متغاضياً عن طبيعة هذه المواقف التي تهدف بالأساس لتوفير الحد الأدنى من الحماية للمدنيين العالقين وسط الصراع.
لكن المفارقة التي تجذب الانتباه هنا هي صمت الأقرع التام عن موقف الحزب الشيوعي السوداني الذي دعا مؤخرًا إلى فرض حظر على تدفق السلاح في السودان، إضافة إلى فرض حظر جوي للطيران. فقد خرج صدقي كبلو، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في حديثه الأخير، ليعلن موقف الحزب الشيوعي الداعي لتجفيف مصادر السلاح كإجراء ضروري لوقف النزاع، وهو ذات الموقف الذي كانت تدعو له تنسيقية “تقدم”. ومع ذلك، اختفى صوت الأقرع بشكل غريب، وامتنع عن توجيه انتقاداته اللاذعة التي اعتاد توجيهها للتنسيقية.
هذه الازدواجية تثير تساؤلات عديدة عن دوافع الأقرع وخلفيات مواقفه. فلو كان نقده للقوى المدنية نابعا فعلاً من تحليل أكاديمي مستقل، لكان من المنطقي أن يوجه سهام نقده للحزب الشيوعي الذي تبنى ذات موقف “تقدم” في المطالبة بحماية المدنيين وفرض حظر السلاح. وبدلاً من ذلك، نراه يصمت أمام هذا الموقف، مما قد يضعه في دائرة الشك حول مدى حياديته. فقد بدا أن الدكتور معتصم ينتقي خصومه بعناية، ويكيل النقد فقط للأطراف التي لا تتماشى مع توجهات معينة تخدم خطاباً يقترب، بشكل أو بآخر، من خطاب الإسلاميين الذين يسعون للتخلص من أي قوة معارضة حقيقية داخل السودان، بما في ذلك القوى المدنية الفاعلة.
إن الأقرع، وهو الذي لطالما ادعى الموضوعية الأكاديمية ورفض التحزّب، لم يتخذ خطوة جادة لمساءلة الحزب الشيوعي حول مواقفه الأخيرة، ولا يمكن تفسير صمته هذا سوى أنه يتفق مع بعض هذه الأطراف سراً، أو أنه ببساطة لا يجد من المصلحة مهاجمة الحزب الشيوعي في هذا التوقيت تحديداً. فكأنما النقد الأكاديمي الذي يروج له الأقرع مشروطٌ بمدى اتساق الطرف المُنتقد مع مصالح جهات يحرص على عدم المساس بها.
من المهم أن يدرك الأقرع أن الموضوعية الأكاديمية الحقيقية تقتضي معاملة كافة الأطراف على قدم المساواة دون انتقائية. إذ كان من المفترض أن يوجه نقده للحزب الشيوعي بنفس الحدة التي يهاجم بها تنسيقية “تقدم”، في حال كان يرغب حقاً في تبني موقف نقدي متزن. أما أن يسكت عن دعوات الحزب الشيوعي بفرض حظر السلاح والطيران، فيما يهاجم “تقدم” بلا هوادة لمجرد دعوتها لحماية المدنيين، فهذا يكشف عن ازدواجية تضع استقلاليته الفكرية في موضع تساؤل.
ويبدو أن الأقرع قد أصبح رهينة لآراء تعبر عن مواقف إيديولوجية مغلّفة بلباس أكاديمي بحت، وهذا الموقف يزيد من تعقيد الوضع السوداني؛ لأن النخب الأكاديمية، من المفترض أن تكون حيادية، وتساهم في توعية الشعب لا إثارة الجدل حول مصالح خاصة.
ختاماً، فإن صمت الأقرع عن موقف الحزب الشيوعي يضعه أمام اختبار جدي لمصداقية خطابه الأكاديمي، ويثير شكوكاً حول أهدافه الحقيقية من هذا النقد الانتقائي.
#انتقال #intihal