محمد جميل أحمد
ثمة خلطٌ مؤذٍ يشيع بين كثيرين من أبناء البجا بشرق السودان؛ بين مفهوم الوطن وبين مفهوم الحكومة في ظل ٣٠ سنة من نظام الإسلام السياسي الذي لا يكترث في أيديولوجيته لمعنى الوطن، وهذا خلط خطير، إذا لم ينتبه له أبناء البجا فسينطوي على مغالطات ستوقع البعض في تنازع وجداني غير محمود العواقب. وطنك هو أرضك، ومهما وقع للبجا من ظلم الحكومات، فلا ينبغي أن يكون سبباً لذلك الخلط الخطير. ظلم الحكومة زائل، أما والأرض/الوطن فهو باقٍ.
وفي الحقيقة، إن تقزيم الشعور بالوطنية كان يتطور مع إهمال حكومات المركز المتعاقبة لمناطق البجا منذ ما بعد استقلال السودان، لكن دور نظام الكيزان في مضاعفة تقزيم الشعور الوطني والمواطنة، كان له سببان: السبب الأول، قيام الفهم الأيديولوجي للإخوان المسلمين على تصور يوهم تناقضا أو تشوشا بين مفهومي الدين والوطن (مع أنه ليس هنا أي تناقض بين المفهومين)؛ والسبب الثاني مضاعفة إهمال مناطق البجا زمن حكم نظام المؤتمر الوطني.
ونتيجة لكل ذلك التجريف الذي استمر لأكثر من ثلاثين سنة، من تسييس الإدارة الأهلية وتوريط نُظَّار القبائل في ممارسة السياسة، حل الولاء للقبيلة في مركز دائرة اهتمام أبناء البجا محل الوطن؛ مع أن الوطن وحده هو الذي يحدد هويتنا باستمرار لأنه هو الفاعل الأساسي والمستمر في إعادة تعريفنا كمواطنين، بدايةً من خلال وثائق ملموسة كالجنسية والجواز والرقم الوطني – لا القبيلي – الذي يُعرّفنا للآخرين في الخارج كسودانيين، وليس كبجا أو نوبة أو فور. ومن خلال الخطط الوطنية الإسكانية لنا كسودانيين تملكنا المنازل في أحياء المدن التي تم تخطيطها لتستوعبنا جميعا كسودانيين – لا كقبائل – وتم تهيئة العيش المشترك لأبناء الشعب – من كل أنحاء السودان – في كل مدينة كبيرة كمدينة بورتسودان، ثم أصبح الوصف المناسب لنا بعد كل هذا الإنجاز في بناء الدولة السودانية – منذ ٢٠٠ سنة – هو أن نُعرِّف أنفسنا كشعب سوداني.
وهكذا سيدرك أبناء البجا أن ما هو ملموس في حياتهم داخل هذا الوطن حقيقةً هي هويتنا الوطنية التي تترك آثارها في كل ناحية من نواحي الحياة؛ في الاقتصاد والتعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية والاهتمامات العامة والتصورات المشتركة، ووو.. الخ.
ومع ذلك كان من ضغط نظام تسييس الإدارة الأهلية في ظل حكم المؤتمر الوطني، أن نسي أبناء البجا هذه البديهيات المؤثرة بقوة في حياتهم اليومية ليتعلقوا بالقبائلية والإدارات الأهلية، وذلك ليس لأن هذه القبائل هي بالفعل المؤثرة في الحياة، ولكن لأن نظام الإخوان المسلمين بوصفه نظاماً يُضمر القدامة في حقيقة بنيته الأيديولوجية؛ لذلك كان من المناسب له، بعد أن فشل فكره الإسلاموي الفقير بأعباء بناء فكري نظري لإدارة الدولة متعدد؛ أراد أن يجعل القبيلة مركزا للاهتمام العام بين الناس عبر الإعلام وعبر أجهزته الحكومية وفرض سلطاته المؤثرة وتشريعاته وأوامره.
في الحقيقة، إن زمن سلطة القبائل كان قد ولّى بلا رجعة لأن البناء الحديث لهياكل الدولة السودانية كان قد تجاوزه تماماً.
لقد كان زمن السلطة السياسية الحقيقية للقبائل، قبل ٢٠٠ سنة، زمناً لتفشي الجهل والأمية المسيطرة على عقول الناس، وبالتالي كان يستحيل على الإنسان العادي أن يكون فردا راشدا وعقلانيا، ناهيك عن أن يمتلك وعيا مستقلا في الحكم على الأشياء، فضلا عن أن يكون هناك فضاء عام مشترك للتعايش والتمازج بين القبائل – كما هو الحال اليوم بفضل وقيمة الوطن.
لقد كان من المستحيل في زمن سلطة القبائل وحواكيرها؛ أن يمر فرد بأرض قبيلة أخرى، مروراً عابراً – ناهيك عن أن يستريح في مضاربها – دون إذن القبيلة. أما لو أراد ذلك الفرد أن يعيش في القبيلة باقي عمره فيعيش بينهم، وهو يعرف ضعفه وانكساره باستمرار، لأنه ليس منهم، وبالتالي حقوقه ليست كحقوق أفراد القبيلة.
هذا الزمن القبائلي المقبور هو الذي أراد الفكر العاجز للإخوان المسلمين أن يعيد إنتاجه، حين فشل في إدارة دولة عصرية. وكانت النتيجة هي؛ أن نظام تسييس الإدارة الأهلية الذي اعتمده الإخوان المسلمون لتفخيخ النسيج الاجتماعي لقبائل البجا في شرق السودان؛ لم يفلح في بعض القبيلة ولا زمنها (لأن زمن السلطة السياسية للقبيلة مضى قبل ٢٠٠ سنة ولن يعود أبدا)، وإنما جلب لنا مسخا اسمه القبائلية، وهذا المسخ متى ما مارس عبره نظار القبائل السياسة أحدث خرابا عظيما وفسادا سرطانيا للحمة المجتمعية – كما نرى اليوم المصير الذي أصبحنا عليه بشرق السودان – (تجربة المجلس الأعلى لنظارات البجا نموذجا).
وفق هذه المفارقات الخطيرة التي أصبحت فيها القبيلة مركزاً للاهتمام العام لأبناء البجا بشرق السودان، بطريقة تشغلهم عن الانتباه لمعنى الوطن ووجود مفرداته وتمظهراته اليومية المؤثرة في كل جوانب حياتهم؛ سندرك كم هي عميقة تلك الحفرة المظلمة التي أوقع فيها نظام الإخوان المسلمين مجتمع البجا في شرق السودان، وكذلك بقية أنحاء السودان. وهو مصير جهنمي يمكننا أن نظل عالقين في عذابه لأبد الدهر – إذا لم نلتف جميعا حول حس ووعي وطني نفهم به معنى الوطن بطريقة تخلصنا من هذا المصير المظلم. بقي أن نقول أمرين مهمين: الأول؛ أن عادات البجا بشقيهم (الناطقين بلغة البداويت والناطقين بلغة التقراييت) عادات قبلية ما زالت فيها ممارسات عدمية كالعزلة والنفور من الغريب، والتقوقع داخل الذات وهي عادات مع ما فيها على هذا الإرث القبائلي القديم والمزمن والمعيق للتقدم، ولم توجد في السودان دولة قومية ممتازة تضع نظما علمية ومعالجات معرفية تخرج البجا من أطوارهم وعاداتهم التاريخية تلك، عبر تجارب رائدة لتطوير حياتهم بعد فهم نظم إدراكها فهماً جيداً ومن خلال طبقة من الرواد والخبراء من أبناء البجا أنفسهم – بعد أن تؤهلهم الدولة – وعبر مناهج تعليم يبدأ فيها أطفال البجا التعلم بلغتيهما المحليتين – في المراحل الأولية من التعليم في حدود ٣ سنوات – مع تنمية شاملة وتتناسب مع طبيعة حياتهم.
الأمر الثاني، هو أن ضعف الإحساس بمعنى الوطن عند البجا أيضا؛ سببه هو حرمانهم من الإحساس بهويتهم السودانية في المركز عبر مفردات من حياتهم وتقاليدهم يتم إدراجها في التعليم والإعلام والفنون ضمن دائرة إغناء التنوع في الهوية السودانية، بدلا عن فرض ترسيم هوية الوسط كهوية واحدة في كل مفردات الحياة العامة والتصورات العامة والإعلام والتعليم لكل السودانيين.
كل هذه العوامل التي ذكرناها هي التي يؤدي غيابها الفادح دورا خطيرا في الإحساس العدمي بالوطن، والخلط المؤذي بينه وبين الحكومة في تصورات الكثيرين من أبناء البجا.
تم