انتقال – حسام عبد الوهاب
خلافاً لتسميةِ خروجهم بالمسيرات، أطلق منسوبو نظام المؤتمر الوطني المحلول على تجمعهم لرفض العملية السياسية المفضية لإنهاء الانقلاب وإسقاط سلطتهِ وتفكيك نظام الإنقاذ وتحقيق أهداف الثورة بـ”موكب الكرامة”، مما يُعَدُّ تغييراً لقاموسهم السياسي واستخداماً لأدبياتِ ثورة ديمسبر المجيدة في تضليل الرأي العام، مما ولَّدَ جدل المقارنةِ بين الثقافة السياسية للإسلاميين والثقافة السياسية لقوى الثورة والانتقال الديمقراطي.
قاموس الإسلاميين
لطالما أطلق الإسلاميون ومنسوبو الحركة الإسلامية طوال فترة حكمهم التي امتدت من يونيو 1989م، حتى سقوطه بثورةٍ شعبية في أبريل 2019، على خروجهم للتظاهر تأييداً لنظامهم؛ مسمى “مسيرات”. وارتبط ذلك بالثقافةِ السياسية والعبارات التي تُعبّر عن تفكيرهم السياسي وارتباطهِ بنموذج جملٍ مثل “المسيرة القاصدة إلى الله” و”سفينةُ الإنقاذ سارت لا تبالي بالرياح”، في محاولةٍ لتغيير الثقافةِ الاجتماعية المرتبطةِ بالتغيير السياسي والسلمي للسلطة. ولقد حاول الإسلاميون عبر ما سمّوه المشروع الحضاري وإعادة صياغة الإنسان السوداني، إدخال مفاهيم جديدة للقاموس السياسي اليومي. وفيما سبق فترة الديمقراطية الثالثة 1986 – 1989م، وثورة أبريل 1985م كان القاموس السياسي يتضمن عبارة “التظاهرات” والإضراب والسياسي والعصيان المدني والثورة والانتفاضة. وظلت قوى المعارضة السياسية والمدنية تستخدمها لكون تلك المفردات مُعبرة عن التفكير الجماهيري الساعي للديمقراطية.
قوى الحرية و إستخدام عبارات مواكب
ومع انطلاق شرارةِ ثورة ديمسبر المجيدة في 2018م، أدخل تجمع المهنيين السودانيين وقوى الحرية والتغيير عباراتٍ سياسية ذات مغزى تُعبر عن مفاهيم الثورةِ والديمقراطية. وبدلاً عن استخدام عبارةِ تظاهرات، كانت مفردتا “الموكب أو المواكب” هما الأبرز، والعنوان الأكبر المعبر عن الفعل الشعبي والجماهيري الذي أسقط نظام الإنقاذ، وصارت مفردة “الموكب” هي المرادف الرئيسي لـ”التظاهرات”.
وخلافاً لما أسست له ثورة ديسمبر من ثقافةٍ سياسية وسط المجتمع، من حيث اختيار زمن ومواقيت المواكب السلمية؛ احتفظ الإسلاميون على الدوام بالخروج لمسيراتهم ما بين الساعة التاسعةِ صباحاً والثانية عشرة ظهراً؛ ولكن عكساً لطريقةِ الخروج التي ظلت ترتبط بالمواكب السلمية التي تقودها القوى السياسية والمدنية المناهضة لنظام المؤتمر الوطني المحلول وانقلاب 25 أكتوبر؛ يُفضل الإسلاميون التجمع في نقطةٍ واحدة والسير لمسافاتٍ قصيرة، أو التجمع في مكانٍ محدد؛ بينما تكون المواكب السلمية في سلاسل بشرية وجموعٍ مُنتظمة تتجمع في نقاطٍ مختلفة مُتباعدةٍ جغرافياً ومناطقياً، وتلتقي في مساراتٍ موحدة، وتكون لمسافاتٍ طويلة من أجل الوصول لوجهتها.
المواكب السلمية
استخدام عبارة موكب أو مواكب مرتبطٌ باختيار زمن وحجم الحشود الجماهيرية، وأصبحت الساعة الواحدة ظهراً وأول أيام الأسبوع وآخر يومٍ فيه هي المواقيت المحددة المعروفة شعبياً، طوال أربع سنواتٍ من سعي السودانيين لبناء دولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ وديمقراطية. الرفض الشعبي للإسلاميين جعلهم طوال أشهرٍ بعد سقوط نظامهم عاجزين عن الفعل الجماهيري، حتى بدأت علاقتهم تنمو مع العسكر شيئاً فشيئاً بعد تشكيل لجنة تفكيك نظام 30 يونيو 1989م واسترداد الأموال العامة، إذ قدم لهم العسكر تسهيلاتٍ للخروج الأول خلال الفترة الانتقالية فيما سميت بـ”مسيراتُ الزحف الأخضر” في ديسمبر 2019م. وهنا احتفظ الإسلاميون بثقافتهم في تسمية الخروج للشارع بالمسيرات كما في فترةِ حكمهم. والزحف الأخضر مرتبطٌ بالألوان التي تعبر عن شعار حزب المؤتمر الوطني المحلول، إضافةً إلى أن اللونين الأبيض والأخضر اللذين ارتبطا بشعاراتِ الإخوان المسلمين في السودان منذ حركةِ الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية والمؤتمر الشعبي الإسلامي، وانقسامهم في مفاصلة 1999م، مع إضافاتٍ بسيطةٍ للألوان الأحمر والأسود والأصفر في تحولاتهم نحو تصميم شعاراتهم.
تصحيح الثورةِ ومسارها وتحقيق شعاراتها، هي العناوين الأبرز التي ظل الإسلاميون على الدوام يرفعونها منذ أولى مسيراتهم بعد سقوط نظامهم، والتي تمت بتسهيلٍ من الجيش في 14 ديمسبر 2019م، وهي سرديةٌ منحها الإسلاميون للجيش المتحالف معهم لإسقاط الحكومة الانتقالية والانقلاب في 25 أكتوبر، تحت مسمى تصحيح المسار. هذا الخطاب الإعلامي، أسهم في تضليل الرأي العام بشكلٍ كبير عبر آلياتٍ مختلفة من خلال توظيف منصاتٍ إعلامية وأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكن دائماً ما يتم كشفها. ونجحت الحكومة الانتقالية قبل الانقلاب عليها في أكتوبر 2021م، في الكشف عن منصاتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتبع النظام المخلوع وقوات الدعم السريع في يونيو 2021م، وكانت تعمل على تضليل الرأي العام وتوجيهه ضد الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة واستلاف شعارات الثورة واستخدام ذات الآليات. وليس أدل من استخدام عبارةِ موكب لوصف خروجهم الأخير بـ”موكب الكرامة”.
القاموس السياسي
يتضمن القاموس السياسي للإسلاميين، دائماً مفرداتٍ مثل مسيرة ومناصرة ومبايعة وتوظيف الخطاب الديني في أهدافهمِ السياسية، مثل الخطاب الإعلامي الموجه ضد مشروع الدستور الانتقالي والعملية السياسية التي تقودها قوى الحرية والتغيير لإنهاء الانقلاب وإسقاط سلطتهِ، حيث يحشدون الرأي العام بأن ذلك استهدافٌ للدين، وتكون أعمار المشاركين في “مسيراتِ الإسلاميين” 40 عاماً على الأقل، وهو ما يعكس الفئاتِ العمرية التي تتمسك بهذا الخطاب والمشروع السياسي. ويعتمد الإسلاميون على حشد القبائل والطوائف الدينية وطلاب الخلاوى والإدارات الأهلية، ويتم توفير الدعم المالي وحتى النقل الجماعي والعمل على الحشد عبر المقابل العيني والمادي.
تنوع المواكب السلمية للثورة
في المقابل، فإن المواكب السلمية تكون مختلفةً من حيث الفئات العمرية التي تتنوع ما بين الشباب والكهول – يغلب علىها الشباب- وتتنوع الأعمار من 18 سنةً وحتى 80 سنةً، كما حدث في مواكب “كلنا معاكم”، التي انتظمت مدن العاصمةِ الثلاث منذ شهر مارس 2022م، وتعددت في مناطقٍ مختلفة من حيث حجم المشاركة والتنوع وتكوينها الاجتماعي. ويتمثل الفارق أيضاً منذ 2018م، في أن القوى السياسية والمدنية تتولى الدعوة للمواكب السلمية وتتم الاستجابة مباشرةً في المواعيد والمواقيت المعلنةٍ دون قيدٍ أو شرط أو إغراء.
فوارق مهمة
يتجسد فارقٌ موضوعي آخر في الهتافاتِ والمطالب المرفوعة؛ فبينما يدعو الإسلاميون لطرد البعثات الدبلوماسيةِ في إطار استعادة سياساتهم خلال فترةِ حكمهم ومعاداةِ المجتمع الدولي تحت مبرراتِ حماية الدين وعدم التدخل الخارجي خلافاً لما كان يحدث من رهنٍ للسيادة الوطنية للخارج واستجداء رئيسهم المخلوع للرئيس الروسي بوتين من أجل حمايته، فضلاً عن وصم غيرهم بالعمالةِ والارتزاق؛ كانت شعاراتِ الثورة والساعين إلى التغيير والانتقال الديمقراطي، تدعو إلى إصلاح المؤسساتِ المدنية والعسكرية ودمج الجيوش والسلام والعدالةِ والحرية والمواطنة أساساً للحقوق والواجبات. لكن الفارق الأهم هو دعوات الإسلاميين للجيش لتولي السلطة والاستيلاء عليها كما حدث في 25 أكتوبر 2021م، وهي دعوات لم تتوقف منذ مايو 2019م، ودعوات قوى الثورة إلى إخراج العسكريين من العملية السياسيةِ تماماً.