رأي

الكثير من الحديث عن المبادئ، القليل منها

حمّور زيادة

أثار الفيديو المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي للفنان محمد النصري عن الفريق أول صلاح قوش ردود فعل غاضبة وعنيفة.

ظهر فنان الطمبور المعروف في فيديو يعلن استعداده للغناء في حفل استقبال مدير جهاز الأمن الأسبق. وهو موقف سيء جداً. ومن الطبيعي أن يكون له تبعات عند عدد من معجبي الفنان. كما أنه سيجذب إليه معجبين آخرين بدافع الحمية السياسية. يثير هذا الموقف – في تقديري – نقطة أخرى شديدة الأهمية، لا تُدين النصري وحده. وهي نقطة علاقتنا كسودانيين بالمبادئ التي نتحدث عنها.

من البديهي أنك إذا سألت الفنان النصري عن الاعتقال التعسفي، وتعذيب المعتقلين، وبيوت الأشباح فسيُدين كل ذلك؛ لكنه لا يجد غضاضة في الاحتفاء الاجتماعي بابن إقليمه حتى لو ارتكب ما يدينه. وهي مسألة منتشرة عندنا كشعب “اجتماعي”، أكثر منه مبدأي.

فعلى حين نتكلم كثيراً عن القيم والمبادئ، يصعب أن نجد في تربيتنا أو أعرافنا ذلك الانحياز للمبادئ الذي يعلو على العلاقة الاجتماعية.

سِرْ في الشارع وأسأل أي عشرة من المارة عن رأيهم في العنصرية. سيجيبون جميعاً بلا تردد رافضين لها ومُدينين من يفعلها. اسألْهم هل قطعوا أو حددوا علاقتهم مع أحد معارفهم لأنه عنصري. ما هي الإجابة التي تتوقعها؟

إن صح لي أن أجعل ملاحظاتي قاعدة عامة، فنحن نتربى على قيم شفاهية؛ لا نعرف كيف نتعامل معها في الواقع.

شاهد الدعم المجتمعي لمُدانين في جرائم كبرى، مثل الفساد السياسي أو القتل أو غيرها. ستجد دوماً أن شبكة الأمان الاجتماعي تسعى للدفاع عن ابنها مهما فعل. هي لا تتجاهل جريمته فحسب، بل تتدخل لحمايته من عواقبها. قبل سنوات كانت هناك قضية جنائية شهيرة هزت العاصمة الخرطوم؛ حيث قَتَل شاب من أسرة طيبة صديقه في ظروف لم تُعرف بدقة. سعت أسرة القاتل للعفو عنه، وحين رفضت أسرة القتيل هاجت أسرة القاتل كأنما تعرضت للإهانة والاعتداء. بعد سنوات قُتل شاب متطرف مع تنظيم داعش الارهابي في سوريا. نعته أسرته في كبريات الصحف السودانية واحتفت به. هذه الأسرة ليست خلية داعشية؛ لكنها ترفض أن تأخذ موقفاً مُديناً لابنها.

قريباً تسارعت قيادات سياسية لتقديم العزاء لمدير الشركة السودانية للمعادن مبارك أردول، في وفاة السيدة والدته. قيادات تتحدث عن المحاسبة وإقامة دولة القانون، وسبق لها أن أدانت سلوك السيد أردول في حادثة جمع التبرعات الشهيرة، واعتبرتها فساداً. وبعض هذه القيادات كان قد خرج قريباً من معتقلات الانقلاب الذي ساهم فيه ودعمه السيد أردول؛ لكن موقفهم المبدأي ضد الفساد الإداري أو الانقلاب لم يتغلب على العرف الاجتماعي.

قبل أسابيع ضجَّت الأسافير بصور السيد إبراهيم الشيخ، الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني والقيادي بالحرية والتغيير، وأسرته، والسيد محمد حسن عربي القيادي بالمؤتمر السوداني، في بهجة اجتماعية حميمة مع الفريق ياسر العطا. فالموقف من الانقلاب العسكري، ومبدأ محاسبة من ارتكبوه، وإدانة المسؤولين عن الانتهاكات التي تواجه بها مواكب الثورة لم يمنع العلاقة الاجتماعية.

حسناً.. فلتنظر حولك. كم واحداً تعرفه قطع علاقته بصديق أو قريب أدين في جريمة، أو يضرب زوجته، أو عنصري اللسان؟

لقد تربينا في بيئة تُلقّننا أن العنصرية خطيئة؛ لكنها لا تسمح لنا بمعاقبة العنصري. لو حاولت أن تفعل ذلك فغالباً ما ستتلقى أنت العقوبة المجتمعية، النبذ. لن يُنبذ العنصري، لكن ستنُبذ أنت الذي قاطعت صديقك العنصري. هذا خلل في الشخصية السودانية لن تصلحه القوانين. هذا خلل مجتمعي، يحتاج لعلاج مجتمعي. أن نتبرى على أن المبادئ ليست كلمات، إنما مواقف، وأن للخطأ عواقب.

يمكننا أن نكتب عشرات القوانين عن المحاسبة، لكنها بلا قيمة إن كان كل المجتمع لا يؤمن بهذا. لن تجد مديراً يعاقب موظفاً إلا إذا تطاول عليه أو خالف أمره. هنا تصبح المحاسبة لإثبات الذات. لكنك ستجد المدير وموظفه يحدثانك عن أهمية المحاسبة، كقيمة مطلقة لا يعرف أحدهما أين أو كيف يتم تنزيلها.

ما لم يحدث التغيير المجتمعي، فسنكون كلنا محمد النصري. نحتفي اجتماعياً بصلاح قوش وأشباهه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى