رأي

بيان ” انفصال الشرق “.. وارتداداته المحلية!

جدل

 

محمد جميل أحمد

يمكن القول؛ إن شرق السودان اليوم يشهد فراغاً سياسياً تاريخياً، وسيظل كذلك للأسف، لا سيما عبر السنوات الثلاثين من حكم الإخوان المسلمين، لأنه مثّل البيئة الأكثر امتصاصاً لسم عملية ” تسييس القبائل”  التي ابتدعتها العقلية الشيطانية للكيزان، وبعثت به دوراً مدمراً لتسييس الإدارة الأهلية، في بيئة قبائلية للبجا يعتبر فيها الانتظام العصبي للقبيلة فيها هو الأكثر تعقيداً وخطورةً، من بين كافة قبائل السودان!

لطالما ظل شرق السودان عبر سكانه من البجا هو الأكثر تهميشاً من كافة أنحاء السودان، لكن الشجاعة تقتضي القول: إن جزءاً مهماً جداً من سبب ذلك الإهمال موجود في منظور منظومة حياة البجا الاجتماعية والثقافية، أي في نظام إدراكها العام وهي منظومة مثقلة ببعض العادات التي لا تعكس تفاعلاً إيجابياً مع تحديات الحياة وأحوالها. وأي نقد يتجاوز هذه الملاحظة الأساسية عن حياة البجا في شرق السودان، سيكون بمثابة قفز على الحقيقة. صحيح أنه قد حدث إهمال متطاول وخبيث من قبل المركز للأطراف السودانية في الشرق والغرب والجنوب، لكن بنظرة سريعة على ما تبدل من أحوال هذه الأطراف خلال ستين عاماً، سنجد أن الجنوب انتزع دولته المستقلة بعد يأسه من المركز، والغرب أصبح اليوم أفضل حالاً بكثير مما كان عليه أمره غداة الاستقلال، فيما سنجد أن أي مقارنة بين لحظة شرق السودان اليوم، ولحظة والجنوب والغرب اليوم؛ ستؤدي إلى حقيقة مرة، وهي أن الشرق لازال في مكانه – رغم أن  كل من الغرب والجنوب والشرق كانوا في عقد السنوات ذاته الذي شهد أحداثاً مفصلية:  تأسيس مؤتمر البجا 1958- وتمرد توريت 1955 وتأسيس” جبهة نهضة دارفور” 1965؟

في ضوء ما أسلفنا أعلاه من سرد مختصر سيظل السؤال المرجعي هو : (لماذا تأخر البجا وتقدم غيرهم) هو السؤال الأكثر أهميةً، رغم كل الضجيج الذي تثيره الكيانات السياسوية مثل: “المجلس الأعلى لنظارات البجا” بقسميه، وأحزاب الفكة التي برزت نتيجةً لانشقاقات حزب مؤتمر البجا حتى بلغت اليوم إلى أكثر من 6 أحزاب، ناهيك عن أحزاب بجاوية أخرى مثل حزب التواصل (الذي انقسم هو الآخر إلى قسمين) والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة (التي انقسمت بدورها إلى قسمين).

أمام هذا الاستعصاء الذي نراه اليوم من حال الوضع السياسي في شرق السودان والامتناعات المقيمة حيال أي اختراق سياسي حقيقي لأحزابه البجاوية عن إنجاز وحدة حقيقية بينها ناهيك عن التأثير في المركز، من ناحية، وعن عجز الأحزاب القومية المركزية عن اختراق مجتمع البجا، من ناحية ثانية، يمكننا اليوم قراءة ما تم تداوله مؤخراً من بيان أصدره فصيل “المجلس الأعلى لنظارات البجا” أو ما يسمى “مجموعة بورتسودان” بقيادة العمدة إبراهيم أدروب، وعبد الله أوبشار، وسيد أبو آمنة وما تضمنه ذلك البيان في الأسبوع الماضي من وعيد بفصل شرق السودان وعدم الاعتراف بحكومة الخرطوم ووو، نقول إنه:  فضلاً عن الطبيعة العبثية لهذا البيان (الذي كتبه الأمين السياسي لشق جماعة بورتسودان من المجلس الأعلى لنظارات البجا سيد أبوآمنة)، باعتباره فصلاً هزلياً جديداً من فصول الثورة الكيزانية المضادة بقيادة أمثال محمد علي الجزولي وموسى هلال وتخطيط أمثال غندور وآخرين. مع كل ذلك؛  فإن خطورة هذا البيان لا يمكن أن تقرأ مركزياً ولا حتى سياسياً-كما يتوهم كثيرون في المركز – لأنه بيان عبثي بامتياز، ولا يعكس أي مسؤولية سياسية، لكن خطورته تكمن في تحليله من زاوية القبائلية، أي في تحليل التداعيات المحتملة التي يمكن أن يخلق عبرها  هذا البيان صداماً بين الطرفين حول مسألة التمثيل بين قسمي كيانين كل منهما ذو اسم قبائلي. لهذا رأينا الناظر ترك يخرج ببيان يوضح فيه استنكاره لمثل هذا البيان وتحدى من كتب البيان (يقصد سيد أبو آمنة) ومجموعة بورتسودانفي أن يكون لهم قدرة على مستوى الحشد، ناهيك عن أوهام الانفصال.

وهنا، إذا  ما عرفنا أصلاً، أن منظور كل من المجلسين – مجلس ترك، ومجلس سيد أبو آمنة وأ وبشار – للسياسة منظوراً قبائلياً (حتى عندما كانوا جسماً واحداً – ولذلك تنبأنا مبكراً بفشل هذا الجسم نتيجة لتناقض عنصريته مع ممكنات السياسة -) سنعرف تماماً أن الخلاف المحتمل على نزاع تمثيل البجا بين الجسمين سيكون أكثر التصاقاً بطبيعته القبائلية هذه المرة. وبطبيعة الحال متى ما اختلفت القبائل على السياسة من جهة التنافس على التمثيل، فإن إدارة الاختلاف بينها عندئذٍ ستكون تعبيراً عن العنف المدجج بالعصبية وهذه الأخيرة  بذاتها سبب كافٍ لإطالة كل صراع عبر ما تضخه من حمية غير معقلنة و لا تعرف ممكنات السياسة.

لذا  كل ما نتمناه أن لا يتطور الخلاف بين الفريقين إلى صراع قد لا تحمد عقباه. مع ذلك فاليوم، ولحسن الحظ، أدرك بعض نخب البداويت (الشق الناطق بلغة البداويت من البجا) – على قلتهم –  عبثية التعبير السياسوي الضار بمصالح شرق السودان في نشاط ما سمي بالمجلس الأعلى لنظارات البجا  بقسميه، خلال السنوات الثلاث الماضية، بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، ولكن:  أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى