رأي

المدنية المعزولة

حمّور زيادة

يوم الاثنين 5 ديسمبر، وقع القائد العام للجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاقاً إطارياً مع أحزاب وكيانات قوى إعلان الحرية والتغيير وقوى الانتقال الديموقراطي. بحسب الاتفاق الإطاري، فإن المؤسسة العسكرية ستخرج من السلطة. وسيكون هناك، بعد الاتفاق النهائي، سلطة مدنية في جميع المستويات، السيادية والوزارية والتشريعية.

يوم الخميس 8 ديسمبر كانت المواكب الشعبية تتعرض لقمع مفرط في أم درمان وفي الخرطوم!

البنود المكتوبة، التي تم التوقيع عليها يوم 5 ديسمبر جيدة إلى حد كبير. يمكن أن أقول بثقة إني أدعمها. لا يمكن أن أكون ضد سلطة مدنية كاملة. مستوى سيادي مدني محدود، لم يتم الاتفاق بعد هل يكون رئيساً منفرداً أم مجلس سيادة. رئيس وزراء مدني. مجلس تشريعي مدني. وكلهم من اختيار قوى الثورة الموقعة على الإعلان بالتشاور مع قوى الانتقال. هذا أمر جيد.

السلوك، الذي تم يوم 8 ديسمبر هو الحقيقة التي تتجاوز المكتوب.

نحن أمام احتمالين: الأول أن العسكر غير ملتزمين بما وقعوه قبل أيام؛ وكما فعلوا في 2019م بتوقيع الوثيقة الدستورية يفعلون اليوم. هم فقط يرضخون لضغوط دولية ويشترون وقتاً طامعين في اقتراب الكارثة الاقتصادية التي يحذّر منها المجتمع الدولي. حينها سيضطر العالم للتدخل وتقديم المساعدات. فالغرب يعرف أن حدود أمنه تمتد إلى هذه المنطقة. ومجاعة بالشكل الذي تتحدث عنه الأمم المتحدة في 2023م هي تهديد مباشر لأمن أوروبا. لذلك تضغط الحكومات الغربية للوصول إلى اتفاق يأتي بحكومة مدنية تتلقى المساعدات لمواجهة الكارثة الإنسانية القادمة. فإذا لم تأتِ الحكومة المدنية وأزفت ساعة المجاعة؟ يراهن العسكر على أن الغرب سيدعمهم ليأمن شر جحافل الهجرات، وليسد الطريق على روسيا المتوسعة التي قد تأتي داعمة للدولة المضطربة.

لذلك هم يوقعون على اتفاق إطاري لتسليم السلطة بيد، ويقمعون المواكب بيد. عدم الالتزام هذا يجعل أي اتفاق قادم معهم بلا قيمة.

الاحتمال الثاني أن العسكر لا يملكون سلطة كاملة على الأجهزة الأمنية. واللافت للنظر أن هذا ما ظلوا يشيرون إليه في تصريحات كثيرة، بلغت فيها الإشارات حد الاعتراف. فهم لم يفضوا اعتصامات الثورة في ولايات السودان المختلفة في يونيو 2019م، إنما جهة مجهولة من قامت بذلك. جهة ترتدي زياً نظامياً، بتنسيق في كل ولايات السودان، قامت بتفريق المعتصمين وقتلهم. أمام بوابات القيادة العامة في الخرطوم، وأمام مباني عسكرية وحكومية في ولايات أخرى. قائد الدعم السريع اشتكى أكثر من مرة من قوات ترتدي زي قواته وتنزل إلى الشارع. جهاز الشرطة يبحث عمن يطلق الرصاص على المتظاهرين وسط قواته غير المسلحة التي تخرج لحماية المواكب!

نحن إذن أمام جهة ما تمتلك سلاحاً وتنظيماً وقدرة على الاختراق عالية جداً. جهة لا يعرفها قادة الأجهزة الأمنية، ولا يستطيعون مواجهتها لمدة 3 سنوات.

هذا العجز يجعلهم غير مؤهلين لأي اتفاق قادم.

وما بين عدم التزامهم وبين عجزهم هناك وهم يراود بعض القوى السياسية، أن العسكر يريدون استفزازهم بهذا القمع حتى لا يكتمل اتفاق تسليم السلطة، وأن تجاهل القمع هو إفساد لخطة العسكر حتى يكتمل الاتفاق.

هذا الوهم الجميل يتناسى أن كل عبوة غاز مسيلة للدموع، وكل مطاطي أو حي، هو “مدماك” جديد في سور عزلة القوى السياسية عن الشارع الثوري الغاضب.

ولو صح هذا الوهم، فسنصل إلى سلطة مدنية لا مؤيد لها، بل هي هدف لغضب الشارع، سلطة معزولة يستطيع أي وكيل عريف أن يقيلها.

إن سلطة مدنية كاملة، ولكن معزولة ومغضوب عليها، لا تختلف عن سلطة غير مدنية.

إن عملية سياسية لا توقف آلة القمع، وتأتي بسلطة معزولة مرفوضة، غير جديرة بالاستمرار ولو كُتبت بنودها بدمع ملائكة السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى