رأي

سنظل نذكر ما فعلتم: سياسة التمكين

حمّور زيادة

رغم الهزات العنيفة التي تعرض لها جهاز دولة الأفندية الذي وضع أساسه وشيده الاستعمار البريطاني، صمد هذا الجهاز بشكل ما، وتماسك لوقت طويل. ولعل شيئاً لم يهزه تاريخياً قدر سياسات التطهير التي ترددت قليلاً بعد ثورة أكتوبر 1964، ثم تبناها نظام نميري في وقته اليساري قبل الاتجاه يميناً. كما أسهمت سنوات الفساد والتردي الاقتصادي في عهد نميري في خلخلة هذا الجهاز البيروقراطي العتيق؛ لكنه نجا بشكل ما وظل محافظاً على جزء كبير من قيمه وقواعده، حتى “هبت ثورة الانقاذ”، وجاء الإسلاميون إلى السلطة على ظهر الدبابات ساحقين الديموقراطية الوليدة المترنحة.

إذا كان العالم يعيش حقبة ما بعد الاستعمار، وتكوينه الحالي مؤسس على ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا في السودان بلا شك نعيش في حقبة دولة التمكين؛ إذ هجمت جحافل الإسلاميين على بنية الدولة لا لتغير فيها، ولكن لتهدها من أساسها وتقيم مشروعها الحضاري المزعوم على أنقاضها.

منذ منتصف العام 1989م، عرف السودانيون أيام الخوف والجوع. كانت قوائم الإحالة إلى الصالح العام تصدر بلا توقف، لتفصل موظفي الدولة بحسب توصيات من جهاز الحركة الإسلامية الأمني؛ فتمت الإطاحة بكل من عرف الإسلاميون أنه يساري أو قومي، وهم الأعداء التاريخيون للحركة الإسلامية. كانت عناصر الحركة الإسلامية تشي بزملاء الدراسة، ورفاق المهنة، في أبشع عملية تشفٍّ عرفها المجتمع السوداني؛ فإن زاملت إسلامياً في الجامعة في السبعينيات، ومهما كانت علاقتكما الاجتماعية قوية، أو تمتد بينكما صلة قرابة، فإنه كان يسارع لوضع اسمك في قوائم أعداء الثورة ليتم فصلك من عملك.

شملت عملية الفصل لما سموه الصالح العام آلاف الموظفين، وامتدت لتشمل غير اليساريين والقوميين، من أصحاب الرأي، أو غير المتعاونين، أو حتى أصحاب المناصب التي يطمع فيها أبناء الحركة الإسلامية لإدارة الدولة بسلاسة وبلا معارضة.

كانت هجمة تتارية وحشية، قذفت بمئات الآلاف من السودانيين إلى البطالة والجوع. وأمام أنظار الجميع كان يتم إحلال كوادر الحركة الإسلامية مكان المفصولين. ولم يكن هذا الإحلال يقتضي كفاءة وظيفية أو خبرة، بل في حالات كثيرة ما كان يقتضي حتى شهادات دراسية. كان الانتماء للحركة الإسلامية وحده مؤهلاً كافياً لاحتلال أي منصب تحلم به.

وعلى حين عض الجوع والإفقار الممنهج مئات الآلاف من الأسر السودانية بعد فصل عوائلهم، كانت كوادر الحركة الإسلامية تنتشر في جهاز الدولة انتشار السوس في العود. وظهرت بدعة مكافأة سنوات “الجهاد” في الجنوب لتكون مؤهلاُ إضافياُ للطامعين؛ فكان الطالب أو الموظف الذي يترك مكانه ويتطوع في مليشيات الدفاع الشعبي يحصل على تسهيلات النجاح والترقية حين عودته. فأصبحت البندقية وقتال أبناء الجنوب رافعة علمية ووظيفية تسابق إليها الإسلاميون لينافسوا بعضهم بعضاً على وظائف الدولة التي انفتحت أمامهم.

ولم ترحم الحركة الإسلامية حتى الحركة النقابية التي تحمي حقوق الموظفين والمهنيين، فحل الانقلاب النقابات منذ يومه الأول، وعيّن لجاناً تسييرية لها، ثم أعاد تشريع قانون النقابات، وشرع في تكوين نقابات واتحادات على مقاس الحركة الإسلامية، فتضخ أموال الدولة لدعم مرشح الحركة الاسلامية. ويعمل جهاز الدولة لمعاونته. وإن استعصت الأمور يتدخل جهاز الأمن بالاعتقال والترويع لضمان سيطرة الإسلاميين على النقابة أو الاتحاد. كان يتساوى في ذلك النقابات المهنية، واتحادات الطلاب في الجامعات والمدارس. لم تكن هناك هيئة مجتمع مدني بعيدة على سيف السلطة.

ربما كانت الجهة الوحيدة التي طالتها سياسة التمكين، لكن تم تعويضها بشكل ما هي القوات المسلحة. ولعل ذلك كان محاولة لعدم استفزاز الجيش الذي عانى مهانة ما بعدها مهانة رغم أنه عمود الحكم وقبضة النظام الأساسية، لكن تكوين مليشيات الدفاع الشعبي وتدليلها، وكشوفات الإحالة للمعاش، كانت مقلقة للمؤسسة العسكرية. فكان فتح فرص عمل للضباط المحالين للمعاش نوعاً من شراء ود الجيش، ففتحت للضباط المعاشيين رخص التخليص الجمركي، واستوردت سيارات النقل التي عرفت لاحقاً باسم “أمجاد” لتوفر فرص عملاً لآلاف الضباط الذين وجدوا أنفسهم يواجهون الجوع فجأة، وغير مؤهلين لأي وظيفة مدنية في دولة يعاد تشكيلها على مقاس من قطعوا أرزاقهم. أعرف ضباطاً عاشوا لسنوات على بيع أثاث بيوتهم. أنزلوا أجهزة التكييف من الحوائط وتركوا مكانها ثغرة تحكي حكاية العوز، وباعوها لينفقوا على أسرهم. أذكر عميداً أحالوه إلى المعاش كان يبكي وهو يبيع أثاثاً يفتخر به، إذ جلبه من ابتعاث إلى العراق. قال لي وكنت غريباً عابراً لا أعرفه ولا يعرفني، إنه يبيع أثاثه العراقي لأنه ما عاد لديه ما ينفق به على بناته.

أسست الحركة الإسلامية دولة التمكين على مقاسها الضيق، وشرعنت احتكارها للوظائف الحكومية، والنقابات، والتجارة.

فلما هبت ثورة ديسمبر لتعصف بسلطتها أرادت أن تحافظ على ما سرقته من أبناء الشعب السوداني. أصبحت الوظائف التي احتلوها بعد طرد شاغليها حقاً مكتسباً، والنقابات التي صنعوها بمال الدولة وبطش جهاز الامن نقابات شرعية، والسوق الذي سيطروا عليه وتمددوا فيه رزقاً حلالاً، أو هذا ما يريدون أن يقنعونا به.

لكننا نعرف ما فعلوا.

لم ننسه.

وسيظل من مطالب وأهداف ثورة ديسمبر تفكيك وإزالة دولة التمكين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى