تقارير

هل تندمل جراح جنوب السودان بزيارة البابا فرنسيس؟

الخرطوم – انتقال – وكالات

عند ضريح زعيم دولة جنوب السودان الراحل جون قرنق دي مابيور وتحت سماء نشرت غيومها في هذا اليوم الذي انتظره الجنوبيون طويلاً، أقام البابا فرنسيس القداس الرئيس اليوم الأحد ختاماً لزيارته المهمة إلى دولة جنوب السودان، حاثاً فيه الناس على تحصين أنفسهم ضد “سم الكراهية” لتحقيق السلام والازدهار ومركزاً على “المصالحة والعفو المتبادل”.

وكان البابا عبر عن اهتمامه بقضايا جنوب السودان في مناسبات عدة، كما لفت أنظار العالم عندما ركع لتقبيل القادة المتصارعين في أحدث دولة في العالم خلال اجتماعه بهم في الـ “فاتيكان” في أبريل (نيسان) 2019، مناشداً إياهم وضع السلاح وإشاعة التسامح والسلام.

وجاء اختيار الضريح لما يمثله جون قرنق من رمزية وطنية عالية لدى الجنوبيين تشكلت طوال سنوات نضاله في حربه مع الشمال منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى مقتله في تفجر طائرة هليكوبتر عام 2005.

ووفقاً للاتفاق الذي وقعه مع الحكومة السودانية قبيل مقتله نال الجنوب استقلاله عام 2011، ولكن بعد عامين فقط اندلعت النزاعات مرة أخرى بين سلفا كير وقائد التمرد رياك مشار.

وكانت حكومة جوبا استعدت لهذه الزيارة التاريخية التي بدأت أول من أمس الجمعة واستمرت ليومين استعداداً أمنياً كثيفاً، نظراً إلى الاضطرابات السائدة منذ سنوات.

وقال عمدة مدينة جوبا مايكل لادو “استعداداً لهذه المناسبة أغلق سوق كاستوم القريب من قاعة الحرية وضريح قرنق حيث يقام القداس الرئيس، أما بقية الأسواق وأماكن الخدمات فهي مفتوحة في أوقات مختلفة”.

وكان حاكم ولاية الاستوائية الوسطى إيمانويل أنطوني دعا مواطني جنوب السودان إلى الوقوف في طابور والاصطفاف على طول الشارع من المطار إلى فندق يام للترحيب بالحبر الأعظم والابتهاج بطريقة تعبر عن ثقافة شعب جنوب السودان.

واتخذت الحكومة إجراءات لتأمين المواطنين والزوار، إذ أعلن المتحدث الرسمي باسم الجيش لول رواي كونق أن “قوات الأمن المشتركة تتألف من الجيش والشرطة وجهاز الأمن القومي، منها 5 آلاف في الخدمة الفعلية لتأمين مطار جوبا الدولي وأماكن العبادة والطرق الرئيسة، والبقية في حال تأهب قصوى لأية مهمة إضافية قد تكون مطلوبة”.

رحلة السلام

وبدأ البابا فرنسيس “رحلة السلام” إلى قارة أفريقيا الثلاثاء الماضي بجمهورية الكونغو الديمقراطية ثم دولة جنوب السودان، بوصفهما تعانيان صراعات طويلة خلفتا ملايين اللاجئين والمشردين ومئات الآلاف من الضحايا، كما أن كل دولة منهما يمثل المسيحيون الكاثوليك فيها نحو نصف السكان.

وقال الحبر الأعظم أمام نحو 70 ألف مواطن جنوب السودان، “لنلق أسلحة الكراهية والانتقام ونتغلب على مشاعر الكراهية والنفور بين القبائل والإثنيات”.

ومع أنه عشية وصول البابا قتل 27 شخصاً في ولاية وسط الاستوائية وعاصمتها جوبا في أعمال عنف متبادلة بين رعاة الماشية وميليشيات محلية، فإن هذه الزيارة اتخذت بعداً محفزاً، إذ رافق البابا خلالها رئيس الأساقفة الأنغليكاني جوستين ويلبي من كانتربري، والقس مدير الجمعية العامة لكنيسة اسكتلندا إيان غرينشيلدز، لأن القادة الدينيين الثلاثة يمثلون التقاليد الدينية الرئيسة النشطة في جنوب السودان، وعقدت الآمال على أن الزيارة ستشجع القادة المتحاربين على التسامي فوق الجراح وأن يكونوا في مستوى المناشدة ويتمكنوا من “الوفاء بوعد حركة الاستقلال” والاتفاقات الموقعة.

عطش للمحبة

وقال الأستاذ في كلية التربية بجامعة أعالي النيل بجوبا شول دينق “بعد طول انتظار تحققت الزيارة المهمة والتاريخية لهؤلاء الرؤساء الروحيين الثلاثة في العالم، بعد أن تأخرت عن موعدها المحدد نسبة إلى ظروف البابا الصحية وتفشي جائحة كورونا.

وجاء اختيار دولتي الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان لأنهما الأكثر معاناة في العالم، وباعتبار الدولتين من رعاياه، وظل شعب جنوب السودان يتابع الزيارة منذ هبوط طائرة الحبر الأعظم في الكونغو حيث أقيمت الصلاة الروحية للرب لكي يرفق بالشعب الكونغولي من العنف والتعب الذي ظهر في التشرد ومعاناة النساء والأطفال”.

وأضاف، “عند وصوله يوم الجمعة استقبل البابا استقبالاً حاشداً، وشاهدت في الأخبار أن مجموعة نساء كاثوليكيات قضين تسعة أيام مشياً على الأقدام قادمات من رومبيك على بعد 300 كيلومتر من أجل رؤية البابا فرنسيس في العاصمة جوبا والحصول على بركاته، كما وصل الناس من ولايات أخرى بوسائل النقل المختلفة”.

وأردف دينق، “الناس في أشد الحاجة إلى هذه الزيارة ويشتاقون إلى أداء الصلوات مع البابا شخصياً، واهتمامهم بزيارة البابا يعكس تعطشهم الشديد للمحبة والسلام والاستقرار وبناء الدولة بمواردها المهدرة بفعل الحرب، لأن الرب هو من ينقذ الناس من مخاوفهم كما جاء في الكتاب المقدس، وهو من ينقذ شعب جنوب السودان”.

وأوضح دينق أن “شعب جنوب السودان البالغ عدده 11 مليون نسمة معظمهم مسيحيون يشكلون نحو 60 في المئة، ومنهم 53 في المئة مسيحيون كاثوليك ورئيسهم البابا، وهناك نسبة من المسيحيين المشيخية وآخرين تابعين للأسقفية الأنغليكانية، والنسبة الباقية ممن يعتقدون بالديانات الروحانية وتسمى [كريم المعتقدات] ثم قلة من المسلمين”.

نكوص إلى الوراء

الأستاذ في جامعة أعالي النيل قال إن “شعب الجنوب ظل يعاني منذ أغسطس 1955 حتى توقيع اتفاق أديس أبابا في الـ 27 من فبراير 1972، واستقرت الأحوال مدة 10 سنوات ثم تفجرت الأوضاع مرة أخرى في مدينة بور في الخامس من يونيو 1983، وأفرزت أعداداً كبيرة من الضحايا والنازحين إلى الشمال، ثم وقعت اتفاق السلام عام 2005 وحدث تحول كبير في استقلال البلاد، ورجع الجنوبيون إلى ديارهم لكن استمرت النزاعات وحال عدم الاستقرار، وتحولت الآمال في دولة جديدة يتمتع فيها مواطنوها بالحرية والعمل إلى سراب، وأعادت الأحداث عقارب الساعة إلى الوراء بأيدي الجنوبيين أنفسهم، ودفع المواطنون الثمن باهظاً”.

وأضاف دينق، “الأمل الآن ينصب في مناشدة الرب بأن يرفع المعاناة والتشرد عن كاهل المواطنين، وأن تكون زيارة البابا منقذة لهم، وأذكر أن أبونا الإسكندر لودود وهو من كبار قساوسة جنوب السودان، كان قد صلى عام 2013 صلوات عظيمة، لكن نسبة إلى عدم استجابة الناس للتسامح ولأن رسائله لم تجد آذاناً صاغية اندلعت النزاعات بعدها مباشرة، وبعض المواطنين يرون أن التسامح لا بد من أن يكون مسبوقاً بالمساءلة وتحقيق العدالة وجبر الضرر”.

وأردف، “يمكن أن يستفيد شعب جنوب السودان من زيارة البابا إذ يمكنها خلق واقع جديد للبلاد بأن ينادي الرب أن يتدخل ويبث روح المحبة والسلام، وهذه الصلوات تدفع الناس لتقبل بعضهم بعضاً وتزيل الكراهية، والرب يمكنه أن ينزل معجزات تزيل كل المعاناة فقط لو كانت النفوس على استعداد لتقبل بعضها الآخر حتى يكون لصلوات البابا أثر عظيم”.

بركات التعافي

من جانبه قال رئيس تحرير صحيفة “الوطن” بجنوب السودان مايكل ريال كريستوفر، “كانت أحلام إنسان الجنوب كبيرة بعد أن صوت الجميع بنسبة عالية لخيار الاستقلال عام 2011، فالكل كان ينتظر أن يمضي القطار نحو التنمية والازدهار ورسم سياسات استراتيجية تعالج أخطاء الماضي ويتم خلالها تأسيس دولة المواطنة، لكن انحرف مسار القطار نحو الهاوية وانزلق قادة العمل السياسي في جنوب السودان وتبعثرت الآمال، وبعد عامين اندلع الصراع بسرعة شديدة وتحولت إراقة الدماء إلى حرب شبه أهلية أدت إلى مقتل 400 ألف شخص، ومنذ تلك الفترة ظل شعب جنوب السودان يعيش أوضاعاً مأسوية وأياماً مريرة وصعبة”.

وأكد كريستوفر أن “زيارة الحبر الأعظم أتت بزخم إعلامي كبير فقد رتبت الدولة لاستقبال قداسة البابا، ويجب أن تستمر هذه الروح من أجل أفعال توقف الصراعات المزمنة وأن لا تكون القرارات في ذلك الشأن رهناً لأصحاب الأجندات والمصالح”.

وتابع، “كان برنامج زيارة البابا شاملاً ابتداء من لقاء الرئيس سلفا كير ثم الشباين الخمسة نواب الرئيس وممثلي الخدمة المدنية، ثم زيارته معسكر النازحين المقهورين واجتماعه مع الأساقفة والكهنة والشمامسة والمكرسين والإكليريكيين وأعضاء الرهبنة اليسوعية، واختتمت بصلوات التبشير الملائكية على ضريح الزعيم الراحل جون قرنق”.

ويعتقد كريستوفر أن “الحبر الأعظم وضع هذه الزيارة نصب عينيه، لأن ما حدث في بلادنا يحتاج فعلاً إلى الصلوات والبركات بعد أن وقعت اتفاق السلام المنشط، وقداسته يركز على ما تم الاتفاق عليه فقد قال في إحدى لقاءاته مع طلاب المعهد الأوروبي للدراسات الدولية إن السلام هو خير أساس للعمل من أجله بكل حماسة ونطلبه بكل حرارة من الله، ونسعى إليه بلا كلل أو ملل، وها هو البابا فرنسيس يجدد طلبه مرة أخرى لنتعافى ببركاته من متلازمة جنون جنوب السودان”، وتمنى كريستوفر “تجديد الإرادة وإعطاء تراب جنوب السودان قبلة الحياة”.

تسليع التمرد

وفي السياق يقول الكاتب الصحافي من دولة جنوب السودان يدجوك آقويت، “للكنيسة الكاثوليكية ممثلة في البابوية اهتمام قديم بقضايا الحرب والسلام في السودان عموماً منذ الزيارة البابوية الأولى للحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني إلى الخرطوم في فبراير 1993 مع بدايات حكومة الإنقاذ، ولعبت الكنيسة أيضاً عبر جماعات الضغط في الدوائر الغربية دوراً كبيراً في ممارسة الضغط على الحكومة السودانية حينها لوضع حد للحرب والانتهاكات الناتجة منها، كما كان لها دور كبير في التوصل لتسوية ’سلام نيفاشا‘ الذي وضع حداً لأطول الحروب الأهلية في القارة”.

وأضاف آقويت، “للكنيسة الكاثوليكية أيضاً وجود كبير في جنوب السودان من رعايتها لبعض المستشفيات والمدارس والخدمات التي تقدمها عبر منظمات كنسية مثل ’سمارتن بورس‘ و’كاثوليك ريليف سيرفس‘ كما أن لها حضوراً على مستوى العمل الإعلامي عبر إذاعة ’كاثوليك راديو سيرفس‘”.

ويرى آقويت أن “زيارة البابا فرنسيس أتت امتداداً للقائه الشهير رئيس الجمهورية سلفا كير ميارديت ونوابه، والذي شهد ركوع البابا ليقبل أقدامهم في محاولة لحثهم على وضع حد لمعاناة الشعب الجنوبي مع الحروب، وتتبني روما التوسط بين الحكومة ومجموعة روما التي تشمل حركات عدة غير موقعة على الاتفاق المنشط لحل النزاع في جنوب السودان، ومنها مجموعة جبهة الخلاص الوطني بزعامة توماس شريلو ومجموعة ’فاول ملونق أوان‘ وحركات أخرى”.

فرصة أخيرة

وعن توقعاته حول ما ستسفر عنه هذه الزيارة قال آقويت إن “الوضع السياسي العام لا يدعو إلى التفاؤل المفتوح بزيارة البابا، إذ نرى بوضوح وفقاً للوقائع على الأرض غياب الإرادة السياسية لوضع حد للنزاعات، ولعل الاقتتال الذي سبق زيارة البابا فرنسيس لمدينة جوبا بساعات في مقاطعة كاجوكيجي الاستوائية خير دليل على غياب الإرادة السياسة لتحقيق السلم”.

وتابع آقويت، “بالنظر إلى شيوع ظاهرة تسليع التمرد، أي التمردات الريعية وميل القادة نحو استخدام العنف في حل الخلافات السياسية والصراع حول السلطة، فمن المرجح أن يستمر جنوب السودان في دوامات الاقتتال لفترة طويلة ما لم يفارق قادة اليوم إرث العنف المرتبط بالحرب الأهلية ويتبنون ثقافة سياسية مدنيّة في فض النزاعات السياسية”.

لكن آقويت يرى أيضاً أنه “يحسب لزيارة البابا تنوع برنامجها، ومن المرجح أن يكون الـ ’فاتيكان‘ قد خرج من هذه اللقاءات بفكرة دقيقة عن طبيعة الصراعات في جنوب السودان، وبالتالي القدرة على التوسط بفاعلية في مفاوضات روما”.

أما مايكل كريستوفر فيؤكد أن “مواطني جنوب السودان وبخاصة النازحين في المخيمات والبالغ عددهم 52 ألفاً، تابعوا بشغف كبير أول زيارة بابوية على الإطلاق للبلاد، ومن المرجح أن تساعد هذه الزيارة القادة أو تدفعهم إلى احترام الاتفاق وطي صفحة الخلافات البربرية السابقة والحالية، وأن يضعوا في اعتبارهم معاناة نحو مليوني مواطن فروا من البلاد وأصبحوا لاجئين عقب الحروب العبثية وصراعات السلطة والثروة”.

ويشدد كريستوفر على أن “هذا العدد الكبير يحتاج إلى الجدية من رموز العمل العام وتناسي الماضي وفتح صفحة جديدة عنوانها السلام والاستقرار والطمأنينة للمواطن الذي أنهكته الحروب السابقة والحالية”.

من جانبه يعتقد شول دينق أن “الناس ظلوا يؤدون الصلوات كل يوم أحد في الكنائس ولم يغير ذلك شيئاً، لأنهم لم يكونوا على استعداد لذلك ولم يعترفوا بذنوبهم ويطلبوا المغفرة كما لم يتعظوا ويتسامحوا، وهذه هي الأساسات التي جاء بها البابا، فإن لم يعملوا بها فسيضيعوا هذه الفرصة الأخيرة التي لن تتكرر قريباً”.

وتابع دينق أنه “من الممكن أن تكون هذه الزيارة قد تركت أثراً في شأن تعزيز مشاعر الجنوبيين لتحقيق السلام ورفع المعاناة، إذا استفادوا منها لطرح المصالح الخاصة جانباً ونظروا إلى معاناة الشعب، لتظل الزيارة دافعاً للساسة من حكوميين ومعارضة لاحتضان بعضهم بعضاً والتحرك نحو إشاعة السلام”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى