Uncategorizedرأي

خطيئة تعبئة ثورة شعبية في قوالب ضيقة

حمّور زيادة

لا يوجد حراك شعبي يستمر إلى الأبد. هذه طبائع الأشياء. تنتفض الشعوب كل بضع سنين حين تُغلق أمامها فرص التغيير وتحسين الحال. وبمقدار تراكم السوء يكون عنف وقوة الانتفاض.

لكن، كما الفيضانات، وثورات البراكين، تصل هذه الانتفاضات إلى ذروتها، ثم تأخذ في التراجع. ويخلّف هذا التراجع حالة من السيولة قد تستمر لفترة أطول من عمر الحراك.

لذلك فإن ما يمر به الحراك السوداني هو أمر طبيعي، ومتوقع. هذا تراجع كان منطقياً أن يحدث قبل عام، أو أكثر. لكن صلابة أسطورية جعلته يستمر منذ 2018 حتى شهور ماضية قليلة. وكذلك انقلاب 25 أكتوبر. كان حافزاً قوياً لموجة ثورية جديدة.

لكن للأسف لم نحسن الاستفادة من هذه الصلابة، ولا هذا الحافز.

أسباب عديدة تقف وراء ذلك، لكني أريد هنا أن أشير إلى الخطيئة التي لا يحبذ أحد الكلام عنها، تلك العقلية التي أصرت أن تعادي السياسة والسياسيين، وتعمل بقوة على تفتيت رأس مالهم الرمزي القليل، أملاً في صعود “قيادات” جماهيرية من وسط الحراك تملأ الفراغ. وهو ما لم يكن مضموناً، ولم يحدث. من نافلة القول طبعاً أن طبقتنا السياسية نفسها لم تكن على قدر كافٍ من الكفاءة، لكنها واجهت مع عدم كفاءتها، ومعاول العسكر والإسلاميين، طعنات الشارع الثوري الذي امتلأ بشعارات مستلفة من الثورة البلشفية مثل “كل السلطة للسوفيت”، لتصبح “كل السلطة للجان المقاومة”، دون مراعاة للفوارق العظيمة بين الواقعين. فعلى حين كانت السوفيتات مكونة من القوى العمالية والجنود، تفتقر لجان المقاومة السودانية إلى هذا النفوذ والحشد، وتبدو بشكل ما أقرب لتجمعات شبابية في بعض الأحياء. استغرقت هذه اللجان وقتاً طويلاً في تنظيم نفسها، ومحاولة بناء بديل سياسي بمواثيق لم تجد القدرة ولا الوقت الكافيين لتخرج من ضيق اللجان إلى جماهير الشعب.

من اللافت للنظر، أن تجربة “تجمع المهنيين السودانيين” المجهول لدى الناس في 2018 نجحت في تحفيز الشارع، واستلمت قيادته بالتنسيق مع القوى الحزبية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير. بينما لم تجد لجان المقاومة ذات النفوذ رغم صعود الحراك الثوري عقب الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021م، لكن ذلك لم يلفت نظر أحد. فلا المواكب استمرت بذات الزخم، ولا نجحت محاولات الإضراب السياسي. ولم يبرز بديل يملأ مكان تجمع المهنيين ولا قوى إعلان الحرية والتغيير؛ لكن رغم ذلك ظلت نغمة التصفية تتصاعد، وتعتبر تقليص وساع الثورة انتصاراً، تحت اسم “المصفاة الثورية”، أو الغربال.
هذا الغربال المظنون لم يبعد قيادات النخب عن الحراك فحسب، لكنه أقصى جموع المواطنين. وتحولت مواكب الثورة بعد عام من الانقلاب إلى فعاليات معزولة لا يكاد يشعر بها أحد، اللهم إلا إذا ما انفعلت السلطة الانقلابية وأغلقت الجسور في العاصمة.

لم تعد المواكب مغرية للمواطن، حتى لو كان يكره حكم العسكر ويتضرر منه، ويشكو منه ليل نهار، وجاء تحولها إلى فعاليات اشتباك أسبوعية بين ثلة من شباب الأحياء وبعض نظاميين في منطقة شروني وشارع القصر والبرلمان ليزيد عزلة الثورة، التي كانت في يوم قريب فعاليات أحياء يشارك فيها كل الناس.
لنعقد مقارنة بسيطة وواضحة، بين شهور الثورة في 2019م، وشهور ما بعد الانقلاب العسكري في 2021، وبين الواقع اليوم.

ضاقت البلاد على الرئيس المخلوع عمر البشير وقيادات نظامه، حتى صار يلغي زياراته وخطاباته الجماهيرية. وكُتبت على بيوت الكيزان وأفراد جهاز الأمن في الأحياء عبارات الوعيد و”تسقط بس”، ثم طارد شعار “مدنية” البرهان حتى في الحرم المكي وهو يؤدي العمرة، وأبرزه المواطنون في وجه حميدتي وهو يخاطبهم. وانتشرت الإضرابات السياسية في كل مكان.
بينما اليوم يتحرك قادة الانقلاب بكل طمأنينة في البلاد، ويحضر البرهان احتفالات الزواج الجماعي بكثافة، ويزور قادة الانقلاب كل مكان بلا خوف من ردة فعل الجماهير؛ بينما لا يأمن قادة الحرية والتغيير على أنفسهم في موكب، كما حدث في الديوم الشرقية في يوليو الماضي. أصبح العدو هو الحرية والتغيير! وأصبح الانقلابيون والإسلاميون أكثر أماناً في تحركاتهم وظهورهم.
إن الاستمرار في ذات النهج الانغلاقي للعملية الثورية، والإصرار على أن تتحول من حراك شعبي واسع إلى عمل تنظيمي ضيق يحاول تجاوز الأحزاب السياسية وجماهيرها ورأس مالها الرمزي، وفعاليات اشتباك غاضبة كل بضعة أسابيع، هو عملية مضرة جداً بالحراك، وقد تؤدي إلى وأده بالكامل. هذا إن لم تكن قد وأدته بالفعل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى