تحليل – انتقال
رغم تأكيدات القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، بأنهما ترغبان في الخروج من العمل السياسي، والتوجه للالتزام بطبيعة عمل قواتهما العسكرية، والمتعارف على مهامها في القوانين المحلية والدولية، غير أن ذلك التأكيد لا يعني انفصالهما وخروجهما السريع من مسرح العمل السياسي.
لغة التصعيد الإعلامية التي شهدها السودانيون طوال الفترة الماضية، والتي تخرج من قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، رغم حدتها المرتبطة بمواقف كل طرف من العملية السياسية التي تشهدها البلاد؛ تخطت جانب كسب النقاط السياسية من الخطابات الإعلامية، حتى بلغت مرحلة الاستعداد العسكري وحشد وتجهيز القوات استعداداً للمعركة المرتقبة بين أكبر طرفين عسكريين في البلاد.
والمخاوف التي تقيد حركة كل طرف من الطرفين للإسراع والدخول في عملية سياسية مفضية إلى إنهاء الانقلاب، ونقل السلطة إلى المدنيين مفهومة، فضلاً عن أن تلك المخاوف يصحبها طموح سياسي يلحظه الجميع لدى البرهان وحميدتي، فكلاهما حققت له ثورة ديسمبر مكاسب لم تكن موضوعه في الحسبان، وتعظيم تلك المكاسب يرتبط بالحضور في تشكيل المشهد الحالي والصناعة والتأثير على القرارات في المرحلة المقبلة سواء كانت سياسية أو عسكرية.
المراقب لخط التصاعد والهبوط في تحركات قيادة القوات المسلحة والدعم السريع، يرى أنهما لن يقبلا على اتخاذ قرار الدخول في نزاع مسلح داخل العاصمة، وبين أكبر قوتين رسميتين في البلاد، تلك المعركة التي ستكبد البلاد خسائر لا يمكن حصرها، إضافة إلى أن تاريخ بدايتها قد يكون معلوماً غير أن نهايتها بكل تأكيد غير معروفة لدى الجميع، خاصة أن لكل طرف ارتباطاته الدولية والإقليمية، التي ستوفر له السند والعون الذي يجعله يستمر في تلك الحرب، والتي ستحول البلاد إلى مسرح لتصفية الحسابات بين دول المنطقة والإقليم.
نقطة إضافية لا تقل في أهميتها عما سبق، وهي أن الطرفين – أي الجيش والدعم السريع – سيفقدان كل الشرعية التي تجعلهما الآن طرفين مهمين في العملية السياسية، وأيضاً ستقضي على طموحاتهما أيضاً في أي مستقبل جديد سيتشكل في الفترة المقبلة، إذ يعني دخولهما في النزاع أنهما لن يكونا ضمن الأطراف التي لها وضع في المستقبل، والقادرة على فرض إرادتها على القرار السياسي مهما كان صغيراً أم كبيراً.
من النقاط السابقة يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: “من المسؤول عن نفخ نار التصعيد بين أكبر قوتين عسكريتين في البلاد؟”. وبصيغة أخرى: “من هو صاحب أضعف الحظوظ في المشهد السياسي الحالي؟ ويجعله يأسه غير حريص على استقرار المشهد السياسي الحالي، وعودة فاعليته المستقبلية؟ ولمصلحة من تُدار الفوضى التي بإمكانها إفقاد كل السياسيين الموجودين في المشهد السوداني أدواتهم السياسية؟”.
بالتأكيد يعمل فلول النظام السابق على إرباك المشهد، والدفع بالجميع إلى الخيارات الصفرية، التي تفقد كل طرف موجود الآن المكاسب التي حققها من العملية السياسية التي تشهدها البلاد بما في ذلك الجيش والدعم السريع.
وجود عناصر النظام البائد داخل جميع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، هو العنصر المهم في الدفع بحالة التجييش التي نشهدها الآن نحو الحرب، وتوظيف سباق تحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية التي دخل فيها البرهان وحميدتي، والدفع به نحو النزاع العسكري كمرحلة واقعية لا مفر منها أمام كل طرف حتى يكمل تحقيق مكاسبه.
وتساهم الآلة الإعلامية الضخمة التي يمتكلها عناصر النظام البائد في رفع وتيرة سباق الكسب السياسي لدى القيادات العسكرية، وساهمت بشكل مباشر عبر ضخها المستمر على مدار الساعة للمعلومات المضللة، وإيهام الرأي العام بأنها رسائل صادر من القوات المسلحة والدعم السريع، وأن تلك المعلومات تندرج في إطار تجهيز مسرح العمليات، وتأتي في إطار تهيئة المواطن لتلك المعركة وتعبئة الجنود لها.
أصدرت القوات المسلحة اليوم السبت، بياناً راعت فيه بث رسائل الطمأنينة للمواطنين، وتأكيدها على الالتزام بالعملية السياسية، والوقوف إلى صف الثورة.
لكن البيان أيضاً ورغم تحليه بالمسؤولية والجدة الملحوظة، سار على نهج البيانات السابقة في مضمار التكسب السياسي، بوصفه أطرافاً بأنها تزايد بمواقف القوات المسلحة، وتشير إلى أنها غير راغبة في إكمال العملية السياسية. وقال البيان إن الزعم بأن القوات المسلحة “لا ترغب قيادتها في إكمال مسيرة التغيير والتحول الديمقراطي، في محاولات مكشوفة للتكسب السياسي والاستعطاف، وعرقلة مسيرة الانتقال”.
كما سبق ذكره، تُفهم المخاوف لدى الطرفين في الجيش والدعم السريع، والرغبة المستمرة في تحقيق المكاسب السياسية، لكن ذلك لا يعني أيضاً الاستمرار في الخطاب القابل للتأويل والتفسيرات المختلفة، التي تعمل عليها الآلة الإعلامية للفلول في صب الزيت على النار.