رأي

ماذا بعد جنيف ؟

بابكر فيصل

كل المؤشرات توضح أن المبادرة الأمريكية التي طرحها وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، لوقف الحرب في السودان واتخذت من العاصمة السويسرية جنيف مقراً للتفاوض، لن تحقق هدفها الرئيسي المتمثل في التوصل لوقف إطلاق نار بين الطرفين المتقاتلين : الجيش والدعم السريع.

السبب الرئيسي للفشل في التوصل لذلك الهدف هو مقاطعة الجيش لمنبر جنيف بسبب إصراره على تنفيذ بنود إعلان جدة الذي وقعه وفده المفاوض في مايو 2023 مع الدعم السريع كشرط رئيسي (ضمن شروط أخرى) يسبق موافقته على المشاركة في مفاوضات جنيف.

وبغض النظر عن معقولية أو عدم معقولية شروط الجيش، إلا أنه من الواضح أن ما يقال لا يعكس الحقيقة دائماً، وأن السبب الحقيقي (المسكوت عنه) للمقاطعة هو ما صرَّح به مالك عقار يوم الثلاثاء في مخاطبته ل (نفرة) الرياضيين ببورتسودان:

“بنمشي للتفاوض لمن تجي الظروف المواتية للناس عشان يخشوا في التفاوض, لكن الظروف دي لو ما جات وما اتوفرت عشان نجيب سلام .. نحن عشان نمشي لتفاوض لازم نمشي مجيهين ونعرف نحن دايرين نعمل شنو”.

يبدو جلياً أن ما يعنيه عقار في كلامه أعلاه هو أن “التوقيت” غير مناسب للدخول في تفاوض. وعلى الرغم من أنه آثر عدم الغوص في التفاصيل واكتفى بالقول أنهم سيذهبون للتفاوض فقط بعد أن يتوفر الظرف الملائم حتى يذهبوا “مجيهين” أي في وضع أفضل ميدانياً وعسكرياً، إلا أن أحد النشطاء الداعمين للجيش كان أكثر جرأة من عقار وأشار بوضوح إلى أن:

“التفاوض من موقع الهزيمة إسمو استسلام مش سلام، ونحن الآن مهزومين، عليه كل تركيزنا مفروض يتوجه لكيفية الانتصار على الأرض وبعداك ممكن نتكلم عن تفاوض، لكن أي كلام عن تفاوض في هذه اللحظات هو دعوة للإستسلام”.

إذاً الجيش يريد أن يغير معادلة الحرب على الأرض أولاً، ومن ثم يذهب لطاولة المفاوضات، وأن الحديث عن تنفيذ إتفاق جدة ليس سوى محاولة لكسب الوقت حتى لا يوصم بأنه رافض للتفاوض، وليس أدل على ذلك من حديث الجنرال العطا عن أنهم دخلوا في علاقة إستراتيجية مع دولة عظمى وأن ثمار هذه العلاقة ستظهر قريباً جداً.

المبادرة الأمريكية مثلت فرصة ذهبية لوقف الحرب، حيث توفرت فيها عوامل غير قابلة للتكرار على الأقل في الفترة القريبة القادمة، ويقف على رأسها رعاية أمريكا للتفاوض بوصفها أكبر قوة مؤثرة وصاحبة نفوذ في مجتمع الدول، إلى جانب تواجد كل الأطراف صاحبة المصلحة بصفة وسطاء أو مراقبين.

التواجد الأمريكي القوي عبر المبادرة – بلغ أقصاه في تواصل الرئيس بايدن مع الرئيس السيسي من أجل حث الجيش للمشاركة في جنيف – سيبدأ في التراجع خصوصاً وأن الإنتخابات باتت على الأبواب وأن أية إدارة جديدة للبيت الأبيض لن تلتفت لترتيب أوراق السياسة الخارجية إلا بعد نهاية يناير 2025 وهو موعد مباشرة الرئيس القادم لمهام منصبه.

أيضاً سيضعف حماس الشركاء الإقليميين (على رأسهم السعودية) لرعاية أية وساطة جديدة خصوصاً بعد التعثر الكبير الذي أصاب المنبر الرئيسي (جدة) وانشغال الدول العربية بمشاكل أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها في الإقليم (غزة)، فضلاً عن التغيير الذي سيشهده الإتحاد الإفريقي في دورته الجديدة.

لكل هذه الأسباب سينحسر الزخم الذي توفر في منبر جنيف لستة أشهر قادمة على الأقل، وفي هذه الفترة سيحتدم الإقتتال ويتسع نطاق الحرب بسبب محاولة الأطراف تغيير الواقع على الأرض، وتتسرب معلومات عن وصول أسلحة جديدة للجيش، تتزامن مع تصريحات عقار عن تأمين كل الطرق المؤدية لسنار خلال شهر من الآن.

في هذه الأثناء لا شك أن المعاناة الإنسانية ستتفاقم وتصل إلى درجات غير مسبوقة من السوء مع تفشي الأوبئة (الكوليرا وغيرها) وغلاء السلع وندرتها واستهداف المدنيين من قبل الطرفين المتحاربين.

وعلى الرغم من النجاح المحدود لمنبر جنيف في التوصل إلى إتفاقيات لفتح بعض المعابر لإيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين في أماكن سيطرة الطرفين المتحاربين، إلا أن الوصول الفعلي للعون يحتاج لآليات إنفاذ فعالة على الأرض غير متوفرة حتى الآن لضمان وصول ذلك العون للمحتاجين.

إستمرار الحرب لشهور طويلة قادمة يعني إزدياد التدخلات الخارجية السالبة وتعزيز خطاب الكراهية والإنقسام الإجتماعي وتفاقم العنف واتساع نطاقه مع الزيادة في إنتشار السلاح، وكل هذه العوامل لا شك ستؤدي إلى السير في طريق تفكيك البلد وتشظيه.

مع نهاية فصل الخريف، ستحتدم المعارك بصورة واسعة وستنتقل الحرب لمناطق جديدة، ولن يكون هناك نصراً حاسماً لكلا الطرفين المتحاربين، الشيء الوحيد المؤكد هو أن فشل منبر جنيف سيكون بمثابة جرس الإنذار بأن حرب السودان قد تدخل في نفق الحروب المنسية (الصومال مثالاً) التي إستمرت لعقود من الزمن دون أن يلتفت إليها المجتمع الدولي أو يعيرها الإهتمام اللازم.

 

#انتقال #intigal

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى