رأي

السياسة الأمريكية تجاه السودان: المصالح تتقدم على الاستراتيجيات

الكباشي أحمد عبدالوهاب

 

منذ استقلال السودان، ظل التعامل الأمريكي مع الخرطوم محكوماً بسياقات دولية وإقليمية متعددة، بدءاً من الحرب الباردة وحتى الحرب على الإرهاب. لم تكن العلاقة بين البلدين يوماً ذات أولوية استراتيجية، بل تندرج ضمن أطر أوسع ترتبط بمصالح واشنطن في المنطقة والعالم.

وفي فترة ما قبل استقلال السودان، ربطت الولايات المتحدة موقفها بالسياسة المصرية، حيث فضّلت استمرار السودان تحت السيادة المصرية وفق رغبة القاهرة آنذاك. لكن عند إعلان الاستقلال، رحبت واشنطن بالأمر كواقع سياسي دون حماس يُذكر.

خلال الحرب الباردة، سعت الإدارات الأمريكية لجذب السودان نحو النفوذ الغربي ومنعه من الاصطفاف مع الكتلة السوفيتية. ورغم توتر العلاقات الثنائية عقب الحرب العربية الإسرائيلية 1967 وقطع السودان للعلاقات الدبلوماسية، بقيت أبواب واشنطن مفتوحة، وساهمت لاحقاً في دعم اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972.

 

التحولات بعد الحرب الباردة: الإرهاب والاستقطاب العالمي

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية المهيمنة. وبعد انقلاب يونيو 89، وقيام السودان بتقديم الدعم لحركات جهادية، وسياسته الرسالية المعلنة واستعداء المعسكر الغربي بكامله  بطرح المشروع الإسلامي كمشروع سياسي مضاد للنظام الغربي القائم اقتصاديا على الرأسمالية وسياسيا على النظام الديمقراطي، أدرجته واشنطن في قائمة الدول الراعية للإرهاب خلال التسعينيات.

ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر لتعيد تشكيل السياسة الدولية، حيث توحد العالم خلف الحرب على الإرهاب. وفي هذا السياق، ضغطت واشنطن على الخرطوم لإنهاء النزاع في الجنوب، مما أفضى إلى استقلال جنوب السودان عام 2011.

ويبرز هنا سؤال مهم في سياق ثورة ديسمبر التي اقتلعت حكم المجموعة الإسلامية في السودان في 2019م، وانعكاس ذلك على العلاقات السودانية الأمريكية، والتي تم خلالها تحقيق تقدم جيد في العلاقات الثنائية بين البلدين، فهل كان رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب صفقة سياسية أم تحول استراتيجي؟

تكمن الإجابة على هذا السؤال أنه خلال إدارة ترامب، تم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أن ذلك لم يكن بلا مقابل. بل تم ذلك في إطار صفقة تضمنت دفع تعويضات مالية لضحايا المدمرة “يو إس إس كول”، والتوقيع على الإتفاقية الإبراهيمية المفضية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

 

المصالح الأمريكية في السودان: أولوية للأمن

في ظل حقيقة أن السودان بلد فقير ومثقل بالديون، هذا يعني بالضرورة أنه لا وجود لمصالح اقتصادية بينه وبين الولايات المتحدة، وبالتالي لا وجود لإحتمال تبادل صفقة في إطار هذه المصالح، ولكنه في نفس الوقت يكتسب أهمية أمنية للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. تتركز هذه المصالح في ملفات مكافحة الإرهاب، تأمين البحر الأحمر الذي تمر عبره 12% من التجارة العالمية، ومحاربة الحركات الإسلامية التي باتت مرفوضة إقليمياً ودولياً.

وتأتي تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، توم بريلليو، التي قال فيها أن مجموعة النظام المخلوع تحاول العودة إلى السلطة من بوابة الحرب، في سياق يشير بوضوح إلى أن أي تعاون أمني محتمل مع الجيش السوداني سيكون على حساب هذه التيارات الإسلامية الطامحة لإستعادة الحكم مرة أخرى.

 

ما بعد الحرب: مستقبل الإسلاميين في السودان

 

مع استمرار الحرب في السودان والإتهامات بتورط أطراف إقليمية فيها، يبقى مستقبل الإسلاميين غامضاً. وفيما لايبدو هذا الإحتمال مرجحا بدرجة كبيرة، ولكن حتى في حال تمكنهم من حسم الصراع عسكرياً، يبدو واضحاً أن المنطقة والعالم لم يعودا مستعدين لقبولهم كجزء من المشهد السياسي.

سواء كانت إدارة ترامب المرتقبة ستتدخل لمصلحة مباشرة أو لخدمة حلفائها، فإن المؤشرات تؤكد أن الحسابات الأمنية ستظل محور السياسة الأمريكية تجاه السودان، مع استبعاد أي دور مستقبلي للإسلاميين في الحكم.

بناء على ماسبق، يمكن القول إن العلاقات السودانية-الأمريكية لم تكن يوماً علاقات استراتيجية قائمة على رؤية مشتركة أو مصالح طويلة الأمد، بل ظلت محكومة بسياقات دولية وإقليمية أوسع. وعلى الرغم من المتغيرات التي شهدها العالم، مثل الحرب الباردة والحرب على الإرهاب، فإن السياسة الأمريكية تجاه السودان تظل مرتبطة بمصالح أمنية واقتصادية لحلفائها الإقليميين أكثر من ارتباطها بالسودان كدولة مستقلة.

وبذلك يمكننا أن نستنتج أنه في ظل الحرب الحالية في السودان، سيكون التدخل الأمريكي، سواء كان مباشراً أو عبر حلفائهم، يبقى مشروطاً بمصالح تتعلق بمكافحة الإرهاب وتأمين الاستقرار في المنطقة. أما الإسلاميون، فقد أصبحوا خارج دائرة القبول الإقليمي والدولي، ما يجعل فرص عودتهم إلى المشهد السياسي ضئيلة حتى لو حسموا المعركة عسكرياً.

ويبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع السودانيون بعد الحرب استغلال هذه التحديات والتحولات لبناء علاقات دولية متوازنة تقوم على المصالح المتبادلة بعيداً عن التبعية، أم سيظل رهينة لصراعات الداخل واصطفافات الخارج؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى