تقارير

لا يعنيهم سوى العودة للحكم

استراتيجية الإسلاميين الجديدة لتقسيم البلاد وإنهاء آمال العودة للمسار المدني "1-2"

تحليل سياسي –  حسام بدوي

(1)
لا يهدف هذا التحليل إلى تتبع التصريحات الصادرة عن طرفي الحرب في السودان، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على المتغيرات الكبيرة التي شهدتها مسارح العمليات في الأسابيع الماضية.
حققت القوات المسلحة السودانية انتصارات متتالية، ابتداءً من تحرير مدينة ود مدني، التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع منذ نحو عام. ولنكون أكثر وضوحاً، يمكن القول إن القوات المسلحة دخلت المدينة وفرضت سيطرتها عليها بعد نحو 24 ساعة من انسحاب الطرف الآخر منها.
استمر تقدم القوات المسلحة طوال الأيام الماضية، وفرضت سيطرتها على مواقع استراتيجية مثل “مصفاة الجيلي، والخرطوم بحري، وسلاح الإشارة، والقيادة العامة” وبدأت أمس في قصف مدينة الفاشر ذات البعد الاستراتيجي للدعم السريع بالطيران الحربي بصورة مكثفة.
وبطريقة مغايرة لما كنا نشهده طوال فترة الحرب في السودان، كان واقع العمليات الذي أسفر عن سيطرة الجيش على تلك المواقع مختلفاً. لم نشاهد التفاصيل التي كانت القوات المسلحة تحرص على سردها وإطلاع الرأي العام عليها قبل تحريك أي متحرك، كما لم تصاحبها الدعاية الحربية غير الرسمية، مثل نشر الأخبار المضللة أو فتح المساحة للنشطاء المساندين للجيش لإطلاق التهم على القوى المدنية وشنّ حملات الاغتيال المعنوي ضد الطرف الآخر المقاتل – وهو أمر معلوم بالضرورة في ظروف الحرب.
هذا النهج الجديد في المشهد الحربي هو بالتأكيد نتاج لاستراتيجية جديدة، ليس من قبل القوات المسلحة وحدها، بل من قبل قوات الدعم السريع أيضاً، حيث إنها لم تتبع النهج ذاته الذي كانت تتبعه عند فقدانها المواقع التي كانت تسيطر عليها.
كان رد فعل قوات الدعم السريع باهتاً ومنخفض الصوت، وعندما نقول ذلك، يحضر إلى الذاكرة رد الفعل الذي تلا فقدان سيطرتهم على منطقة “جبل موية” الاستراتيجية، والتي، وبدون شك، لا تقل أهمية في المسرح الحربي بالنسبة للدعم السريع عن مصفاة الجيلي ومنطقة الخرطوم بحري والفاشر أو القيادة العامة التي كان يحاصرها وبداخلها قائد الجيش نفسه.

(2)
عقب الأشهر الأربعة الأولى من اندلاع الحرب، رسم المراقبون ثلاثة سيناريوهات لمآلات الحرب في السودان:
أولها، أن ينتصر أحد الطرفين المتقاتلين على الآخر ويفرض سيطرته على حكم البلاد.
والثاني، أن ينخرط الطرفان في مفاوضات تفضي إلى إنهاء الحرب، وهذا السيناريو بدوره كان يضم فرضيتين:

  • أولهما، أن تتم التسوية بين الطرفين المتقاتلين فقط، وينخرطان في حكم البلاد منفردين.
  • والثانية، أن تتم المفاوضات بين المتقاتلين وتعقبها عملية سياسية ينخرط فيها المدنيون، تعيد البلاد إلى المسار المدني.

أما الثالث، والذي يفترض أن نركز عليه الآن، فهو أن يفرض كل طرف سيطرته على مساحة معينة من البلاد، ويفرض سلطته الكاملة عليها، حتى ينتهي به المطاف إلى إعلان حكومته الموازية لحكومة الطرف الآخر.

(3)
مؤخراً، بدأت أطراف مدنية داخل تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” تعلن بوضوح عزمها تشكيل حكومة في المناطق التي يفرض الدعم السريع سيطرته عليها. وبالتأكيد، سيتم ذلك بالتشاور مع تلك القوات صاحبة القرار الفعلي في الحكومة المزمع إعلانها.
إعلان تلك القوى السياسية وبعض حركات دارفور المسلحة تكوين حكومة بالتشاور مع الدعم السريع ليس بالأمر الغريب، بل كان متوقعاً منذ الأشهر الأولى من الحرب. لكن الغريب هو تأخر قوات الدعم السريع في إعلان رغبتها في تشكيل حكومة موازية لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان. فمن الطبيعي أن تبدي تلك الرغبة في الوقت الذي كانت تتوالى فيه انتصاراتها وفرض سيطرتها الكاملة على نحو 14 ولاية من أصل 18 في البلاد، وهي الفترة التي كان فيها الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” مزهواً بانتصاراته، يخاطب جنوده والمواطنين والرأي العام العالمي، ويمعن في الإساءة والتقليل من شأن المؤسسة العسكرية السودانية، حتى بلغ به الأمر القول إن ما قام به سيدرس في الكليات الحربية التي لم يتخطَّ عتباتها.
المتمعن في الأمر سيدرك أن تأخر إعلان الدعم السريع عزمه تكوين حكومة كان يرتكز على حسابات سياسية قائمة على فرضية نجاح التفاوض أو الوصول إلى صيغة مرضية له وللطرف الآخر تفضي إلى واقع حكم جديد في البلاد. وبالتأكيد، كان سيشكل ذلك الواقع من يحملون البنادق، وليس المدنيين الذين لا يمتلكون سوى الوسائل السياسية السلمية.
إعلان تشكيل الحكومة الموازية يعني أحد أمرين لا ثالث لهما:
الأول، انقطاع الأمل في الجلوس للتفاوض مع القوات المسلحة.
والثاني، الوصول إلى تسوية، أياً كان شكلها أو الوسيط الذي رتب لها، مفادها أن يحكم كل طرف المواقع التي يستطيع بسط سيطرته عليها، مع رسم أركان الدولة المتعارف عليها.
كل ما سبق، محصلته النهائية ستفضي إلى هدنة مؤقتة وإقصاء دائم للقوى المدنية.

(4)
عقب التحول الدراماتيكي في المشهد الحربي، وتقدم القوات المسلحة وانسحابات الدعم السريع المتوالية، لا يمكن استبعاد فرضية توصل الطرفين المتقاتلين إلى صيغة ما، إذ لا يمكن وصف تلك الانسحابات بأنها إعادة تموضع، كما أن القوات المسلحة لم يطرأ عليها متغير كبير يُذكر.
تناولت بعض التسريبات الإعلامية في الأيام الماضية أخباراً مفادها عقد لقاءات بين قيادات إسلامية مهدت للمشهد الذي نراه الآن، وهو أمر لا يمكن استبعاده. عقب تلك التسريبات، تحدثتُ إلى أحد القيادات العسكرية التي التقيت بها سابقاً أبان الفترة الانتقالية المنقلب عليها، وكان مقتضباً في حديثه: “الصفقة تمت”، هكذا بدون زيادة أو نقصان!

(5)
منذ سقوط نظام عمر البشير البائد، كانت الاستراتيجية الرئيسية التي يتبعها الإسلاميون للعودة إلى الحكم هي إحداث شقاق بين مكونات الفترة الانتقالية:

– بين المدنيين والعسكريين من جانب.

– وبين القوات المسلحة والدعم السريع من جانب آخر.

وقد كان الجميع شاهداً على تلك الأحداث، حيث أفضت هذه الاستراتيجية إلى انقلاب 25 أكتوبر، ومن بعده حرب 15 أبريل.
في المحطة الأولى، نجح الإسلاميون الطامحون للعودة إلى السلطة في إحداث شقاق بين المكونين المدني والعسكري. وعقب 25 أكتوبر، لم يخفِ الإسلاميون وجههم الذي كان يقف خلف الانقلاب، وسيطروا بكل جرأة على مفاصل الدولة، مما أثار الرعب في قيادة الدعم السريع، التي أدركت أنها ستكون الضحية الثانية بعد القضاء على القوى المدنية. وعندما نجح المدنيون في الوصول إلى صيغة تجنب البلاد الحرب وتقرب بين القوتين العسكريتين، أشعل الإسلاميون الحرب التي نشهدها الآن.

(6)

من مسار الأحداث السابقة، تتضح الاستراتيجية الجديدة للإسلاميين في فرض صيغة توافقية بين القوات المسلحة والدعم السريع تفضي إلى تكوين حكومتين متوازيتين، خاصة وأنهم الضلع الرئيسي في حكومة بورتسودان وأصحاب القرار فيها.
هذه هي المرحلة الأولى، يعقبها مسار تفاوض بين حكومتي أمر واقع، أطرافه معلومة: القوات المسلحة، الدعم السريع، الإسلاميون وكتائبهم. قد تنجح هذه الصيغة التوافقية ثلاثية الأضلاع لفترة تمكنهم من استعادة قوتهم، وبدلاً من استمرار العمليات العسكرية ونزيف دمائهم، يتحولون إلى المعارك السياسية لمحاصرة الحكومة الموازية والتضييق عليها إقليمياً ودولياً وخلخلتها من الداخل.

قد يتسآل القارئ ماهو مصير القوات المشتركة المكونة من الحركات المسلحة صاحبة النفوذ الكبير في ولايات دارفور – المقر المتوقع للحكومة الموازية.

تلك الحركات لا تتعارض الآن معها استراتيجية الإسلاميين الداعمة لتكوين حكومتين في السودان؛ فهم يعملون معهم الآن، وبعضهم يعلن توجهاته الإسلامية بكل وضوح مثل جبريل إبراهيم، وبعضم الآخر له تاريخ عريق في التعاون مع النظام البائد مثل مني أركو مناوي، أما قائد الحركة الشعبية قطاع الشمال مالك عقار فقد كان أول من تم تقليم أظافره من بين كل المذكورين بعد تسريح قواته ودمجها في القوات المسلحة، وكلهم أدوات مستقبلية لإحداث الغلغلة الداخلية في الحكومة الموازية لبورتسودان.
وإذا فشلوا في ذلك، فإن مصير البلاد هو التقسيم الجغرافي، وبذات النسق الذي شهدنا فيه انفصال جنوب السودان.
الثابت في استراتيجية الإسلاميين، التي يتماهى معها طرفا الصراع في السودان الآن، هو إبعاد القوى المدنية وإقصاؤها من المشهد السياسي لعقود مقبلة.

على القوى السياسية في “تقدم” إعادة النظر في رؤيتها السياسية وتبني نهج جديد يجنب البلاد مخاطر التقسيم وتنبيه الأطراف المتقاتلة بأنها تسير في طريق نهايته لن تفضي إلى شي سوى ضعفها وتفككها مستقبلاً، وفي الجانب الآخر على من يساندون الدعم السريع في حكومته المزمع إعلانها أن يعلموا بأن رؤيتهم القائمة على أن حكومتهم ستعمل على محاصرة الطرف الآخر وستساهم في تحقيق السلام وحماية المواطن ليست سوى أحلام تذروها الرياح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى